6- أهمية هذا الحق
أهمية هذا الحقلم يطلب المسيح - لما كان هنا على الأرض - من أحد أن يسجد له، فهو الذي أخلى نفسه بمحض اختياره، آخذًا صورة عبد، وهو الوديع الذي لم يكن يحاول أن يلفت الأنظار إلى نفسه؛ بل عندما أراد الأشرار، سواء في اليهودية أو الجليل، قتله، ترك المكان واجتاز في وسطهم ومضى (متى 12: 14، 15؛ يوحنا8: 59)، وعندما رفضوا قبوله في قرية للسامريين واقترح عليه تلاميذه إبادة تلك القرية، انتهرهما قائلاً: «لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص» (لوقا9: 55، 56). نعم إنه لم يفعل مثل إيليا: يأمر بنزول نار السماء لتأكل أعداءه (2ملوك1: 10، 12)، ولا مثل موسى الذي دعا أن تفتح الأرض فاها لتبتلع مقاوميه (عدد16: 28-لقد تأكد لنا الآن، بعد هذا الذي شرحناه في الفصول السابقة من الكتاب، أن المسيح قال عن نفسه بطرق متنوعة وعديدة، أنه هو الله. وإني أتذكر هنا كلمات أحد الفلاسفة المسيحيين قال ما معناه: إنه في ضوء تلك الإعلانات الواضحة التي قالها المسيح عن نفسه، يستحيل أن يكون المسيح مجرد إنسان صالح، بل من المُحتَّم أن نصل إلى قناعة من ثلاث: أن تقول إنه كاذب يستحق الاحتقار، أو مجنون يستحق الرثاء، (وأنا أنأى بنفسي وبقارئي تمامًا عن هذه الأقوال المهلكة)، وأما الافتراض الثالث، الذي لا محيص عنه، فهو أن نؤمن بأنه هو الله الي ظهر في الجسد، ونتعامل معه على هذا الأساس، بما يليق به من تقدير وإكرام، ومن عبادة وسجود.
اعتراضات
كثيرون من الذين يرفضون الإيمان المسيحي، يقولون إن أمورًا كالثالوث الأقدس، وطبيعة المسيح المزدوجة (اللاهوت والناسوت) هي فوق العقل.
عزيزي الفارئ: هل أنت من الذين يقولون إنهم لا يستطيعون أن يستوعبوا كيف يكون الله واحدًا وثلاثة أقانيم في آن؟ دعني أسألك إذًا: وهل تقدر أن تستوعب الله في شخص واحد؟ بكلمات أخرى إني أسألك: هل تقدر أن تستوعب الله الذي خلق كل الأشياء، وبالتالي هو قبل كل الأشياء، أو بكلمات أخرى هو أزلي؟
قارئي العزيز: سيظل الله فوق العقل. قال عنه واحد من أصحاب أيوب: «هوذا الله عظيم ولا نعرفه، وعدد سنيه لا يفحص»، وقال أيضًا: «القدير لا ندركه» (أيوب 36: 26؛ 37: 27). ومن أين لعقول محدودة أن تستوعب اللامحدود؟
ومع ذلك فإننا لسنا في حيرة ولا ظلام، ولا نحن - مثل الوثنيين – نتعبد ”لإله مجهول“ (أعمال17: 23). لقد أعطانا الله كلمته الصالحة التي عرفتنا من هو الله، ويمكننا أن نقول له، مع عبد الرب داود: «بنورك نرى نورًا» (مزمور36: 9).
ويعترض آخرون على الإيمان المسيحي قائلين: إنه يستحيل أن الله يُصلب، فالله روح. أو يقولون: كيف للإله أن يتألم ويعاني ويموت؟ ونحن نجيبهم بالقول: نعم هذا كله مستحيل بالفعل، ولهذا كان ينبغي أن يتجسد هذا الإله، لكي يعاني ويتألم ويموت! وآخرون يقولون إنه من غير المعقول ولا المقبول أن الله يولد. كما أنه من غير الممكن أن يقدِّم الله نفسه لنفسه. ونحن نقول إن هذا الاعتراضات تتجاهل حقيقة الأقانيم، وحقيقة التجسد، وأن الابن هو الذي مات، عندما قَبِل أن يتخذ لنفسه جسدًا.
لهذا فإننا سنتحدث في هذا الفصل عن معنى كل ذلك، وضرورته. لكن دعني أشاركك أولاً ببعض الأفكار. فلقد ميَّز الله الإنسان بالعقل. وبقدر ما هذه الميزة عظيمة، بهذا القدر سوف يحاسبه الله إن لم يستعملها. ولقد أعطاه أيضًا إرادة حرة. لقد أعطى الله خليقته قبسًا من سلطانه، وسمح أن يكون الواحد رئيسًا لنفسه، وأن يقرر بنفسه ولنفسه أي اتجاه يختار، وإلى أي مصير ينتهي.
ونظرًا لبركة العقل والاختيار الحر، فإن الإنسان إن شاء أن يرفض الكتاب المقدس والتعاليم الإلهية التي يحويها، فهو حر في ذلك، وأما إن قبل تعليم الكتاب المقدس، فإنه من المستحيل – كما أوضحنا في هذا الكتاب - التملص من الإقرار بأن يسوع الكتاب المقدس هو الله. نعم هو الله الذي ظهر في الجسد. إن الإيمان بلاهوت المسيح – كما رأينا ونحن ندرس جانبًا من هذا الموضوع العظيم - هو في صلب نسيج الكتاب المقدس، في لحمته وسداه. بل إننا إذا نزعنا من المسيحية لاهوت المسيح، لا يبقى منها شيء. ثم كيف يمكن أن يكون لموت إنسان واحد كل هذا التأثير على جميع الناس، وهو الأمر الذي نحسه وندركه ممن حولنا، كما أنه أيضًا مُعلَن في كل أجزاء العهد الجديد.
لماذا تجسد ابن الله؟
والآن دعنا من كلمة الله نبحث عن السبب الذي جعل ابن الله يأتي أولاً في صورة الاتضاع؟
كان أمام المسيح العديد من الأغراض ليقوم بالتجسد:
أولاً: حنين الإنسان للتواصل مع الله، ورغبة الله في التواصل مع الإنسان.
كانت البشرية تحن حنينا جارفًا للتواصل مع الله، فلقد خلقنا الله على صورته كشبهه، وبلغة أحد الفلاسفة الأقدمين: لن يمكن للنفس أن تجد راحتها حتى تلتقي بالله. ولكن بالأسف كان هذا مستحيلاً على البشر بعد السقوط. ولقد استغل الشيطان هذا الحنين في قلب الإنسان، وانحرف به لينشر الوثنية في العالم. لقد كان البشر في ذلك مثل ابن تائه لا يعرف لنفسه أب، وكان يشتاق لمعرفة من هو أبوه.
ونحن نستمع إلى هذا الحنين من كثير من رجال الله في العهد القديم. فمثلاً قال أيوب الصديق في سفر أيوب23: 8و9 «هأنذا أذهب شرقًا فليس هو هناك، وغربًا فلا أشعر به، شمالاً حيث عمله فلا أنظره، يتعطف الجنوب فلا أراه». كما تجاسر موسى النبي يومًا وقال لله: «أرني مجدك! فقال له الرب لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خروج33: 18-20). بل حتى في العهد الجديد عبَّر عن هذه الأمنية العزيزة واحد من تلاميذ المسيح إذ قال له: «أرنا الآب وكفانا» (يوحنا14: 8). لاحظ قوله ”أرنا“ وليس ”أرني“، فلقد كان بهذه الطلبة يعبر عن رأي الآخرين من التلاميذ أيضًا.
ومن كان بوسعه أن يعلن الله لنا سوى أقنوم ”الكلمة“، أعني المسيح ابن الله. فكما أن الكلمة هي التعبير عن الشخص، هكذا كلمة الله تعبر عن الله. ولذلك قال الرسول يوحنا: الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يوحنا1: 18).
إذًا فلقد كان غرض التجسد الأول هو أن يعلن للناس الذات الإلهية بكيفية يمكن للذهن أن يستوعبها، والعقل أن يفهمها، والقلب أن يعبدها
ثانيًا: ليكون قريبُا منا، ويشاركنا ظروفنا
أعلن الله من القديم إنه غير منفصل عن شعبه. فقال مثلاً إنه «في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم» (إشعياء 63: 9). لكن كيف يمكن للإنسان أن يفهم هذا؟ كيف يفهم الإنسان أن الله المنزه عن الشعور بالألم، يمكنه حقًا أن يشعر بآلام البشرية؟ أ ليس هو منفصلاً عنا في برجه، بعيدًا بعيدًا في سماه؟ لكن هذه الحيرة انتهت، وهذا السؤال أجيب عنه، عندما أتانا «عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 1: 23)، ووصل إلى مركز بؤسنا نفسه. يقول كاتب العبرانيين عن المسيح: «من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء، ليكون رحيمًا ورئيس كهنة أمينًا. ويقول أيضا: «في ما هو قد تألم مجربًا، يقدر أن يعين المجربين» (عبرانيين2: 17و 18).
ثالثًا: أن يكون الوسيط بين الله والناس
صرخ أيوب قائلاً: «ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا» (أيوب 9: 33). وأين نجد ذلك الوسيط العظيم الذي يمكن أن يضع يده على كل من الله والناس في آن. هل ملائكة السماء يصلحون لأن يفعلوا ذلك؟ هل الكروبيم أو السرافيم يصلحون لهذا العمل؟ أ يمكن للكروب أو للسراف أن يضع يده في يد الله؟ ماذا نقرأ عن ”سرافيم“ إشعياء 6؟ إنهم لا يقدرون أن ينظروا وجه الله، ولا أن يُرَوا منه! إنهم عبيده، وهو خلقهم، فكيف يمكنهم أن يضعوا أيديهم في يده تعالى؟ كنا نحتاج إذًا إلى شخص يكون ندًا لله، ويكون ندًا للبشر، ليمكنه أن يقوم بعمل الوسيط بين الله والناس، فيضع يده على كل من الله والإنسان. ولم يوجد في كل الكون من يقدر أن يفعل هذا سوى المسيح، وذلك نظرًا لاتحاد لاهوته بناسوته.
قال عنه الرسول: «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا» (كولوسي2: 9). فهو له جسد، لأنه قَبِل أن يصير إنسانًا، لكن في هذا الناسوت القدوس يحل كل ملء اللاهوت!
لكن توسط المسيح استلزم منه أن يقوم بعمل الفداء، فبعد أن قال الرسول: «لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح»، استطرد قائلاً: «الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (تيموثاوس الأولى2: 5، 6)، وهو ما سنتحدث عنه الآن
رابعًا: أن يقوم بعمل الفداء.
إن القصد الأهم لتجسد المسيح هو أن يقوم بعمل الفداء. قال الرسول: «إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهماـ لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية» (عبرانيين 2: 14و15).
لو لم يصبح المسيح إنسانًا لاستحال عليه أن يموت، فالله له وحده عدم الموت، ولاستحال أن يمثل الإنسان أمام عدالة الله. ثم لو أنه كان مجرد إنسان لما كانت فديته مقبولة ولا كافية. ليست مقبولة لأن نفسه في تلك الحالة لا تكون ملكه هو، بل ملك الله الذي خلقها، وبالتالي لا يصلح أن يقدمها لله. ولا تكون كافية لأن الإنسان محدود، وأما الخطأ الذي ارتكب في حق الله - غير المحدود - هو أيضًا غير محدود. ولكن نظرًا لأن المسيح هو الله والإنسان في آن، أمكنه – كما رأينا الآن - أن يكون الوسيط، وأمكنه أن يكفر بموته عن خطايا كل المؤمنين، بل وكل العالم أيضًا (1يوحنا2: 2). وهو ما سنركز عليه حديثنا الآن.
المسيح الذبيح
لقد عرف الإنسان منذ القديم أن طريق الاقتراب إلى الله هو بالذبيحة. والكتاب المقدس يعلن ذلك بدءًا من السقوط في الجنة، عندما كسا الرب الإله آدم وامرأته أقمصة من جلد ذبيحة (تكوين 3). ثم مورس تقديم الذبائح بمجرد خروج الإنسان من الجنة، في قصة أول أخوين نقرأ عنهما في الكتاب المقدس، هما قايين وهابيل (تكوين 4).
صحيح انحرف الشيطان بهذا الفكر وشوهه، كما هي عادته، ولكن انتشاره في كل الوثنيات بل وفي أقدم ديانة وهي اليهودية، يؤكد أن مصدره إلهي. ونحن نتذكر قصة إبراهيم الشهيرة مع ابنه، وكيف افتدى الرب هذا الابن بالذبيحة، وكان هذا العمل تأكيدًا لفكرة الكفارة في الذبيحة، باعتباره الطريق الذي ارتآه الله بما يتناسب مع قداسته وعدله.
ويجب أن نلاحظ هذا جيدًا أن الذبائح الحيوانية التي مورست في العهد القديم لم يكن لها في ذاتها أية قيمة تكفيرية، فكيف يمكن للبهائم التي تُباد، والتي ليس لها أرواح خالدة، أن تفدي الإنسان الخالد من الموت الأبدي؟ لهذا ترد كلمات الرسول القاطعة: «لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا» (عبرانيين10: 4).
لكن إذا لم يكن لتلك الذبائح الحيوانية - في ذاتها - أية قيمة تكفيرية عن مقدميها، فليس معنى ذلك أنه لم يكن لها أية قيمة على الإطلاق. فهي بررت من قدّمها بالإيمان (عبرانيين11: 4)، وذلك لقيمتها الرمزية، إذ كانت تشير إلى ذبيحة المسيح المعروف سابقاً قبل تأسيس العالم (1بطرس1: 18). ومن هذه الزاوية فإنها كانت تشبه إلى حد ما بطاقات الائتمان التي نتعامل بها اليوم. إن القيمة الحقيقية لهذه البطاقات ليس في قطعة البلاستيك المصنوعة منها، بل لما لها من رصيد نقدي في البنك الذي أصدر تلك البطاقة. هكذا كانت تلك الذبائح مقبولة عند الله لأن لها رصيدًا في دم المسيح، الذي وإن لم يكن قد مات بعد، لكن الله ليس عنده ماضٍ وحاضر ومستقبل نظير البشر، فهو يرى ما لم يحدث كأنه حدث، بل يرى النهاية من البداية.
إذًا فلم تكن كل ذبائح العهد القديم التي قدمت، سوى رمز باهت لذبيحة ربنا يسوع المسيح العظمى. وما إن ولد المسيح في ملء الزمان، ثم خرج للخدمة، فإن يوحنا المعمدان أشار إليه بالقول: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا1: 29).
الفادي الذي يصلح للفداء
نرى من هو الفادي الذي يصلح لفداء الإنسان؟
1- هل تنفع ذبيحة حيوانية؟ إذا كانت الكفارة تعني الستر والغطاء، فلا يصلح أن تكون الذبيحة أقل في قيمتها من قيمة الإنسان ليمكنها أن تكفِّر عنه، أي تغطيه وتستره. وعليه فلا تنفع ذبيحة حيوانية (عبرانيين10: 3).
2- هل ينفع إنسان عادي؟ يجب أن يكون الفادي خاليًا من الخطية. فلو كان خاطئًا، لاحتاج هو نفسه لمن يكفِّر عنه وما صَلُح لكي يفدي غيره. وعليه فإن الإنسان العادي، نظراً لأنه مليء بالعيوب، لا يصلح لكي يكفِّر عن البشر.
3- هل ينفع إنسان بار؟ مع أن كل البشر خطاة، وليس بار ولا واحد (رومية3: 10). لكن على فرض وجود الشخص البار فإنه لا يصلح أن يفدي. لأن هذا الفادي مطلوب منه أن يفدي لا إنسانًا واحدًا بل كثيرين، وبالتالي المطلوب أن تكون قيمته أكبر من هؤلاء جميعهم معًا.
4- هل ينفع أن يكون ملاكًا أو مخلوقًا سماويًا عظيمًا؟ هب أننا وجدنا مخلوقًا سماويًا عظيمًا، خاليًا من الخطية، وقيمته أكبر من قيمة الناس، فإنه أيضًا ما كان يصلح ليفدي البشر، ذلك لأن نفسه ليست ملكه هو، بل ملك الله خالقها، وبالتالي فلا يصح أن يقدِّم لله شيئًا هو ملك الله أصلاً.
ومع ذلك فإنه ينبغي ويتحتم أن يكون الفادي إنسانًا لكي يمكنه أن يُمثِّل الإنسان أمام الله. فيا لها من معضلة!
من أين لنا بمثل هذا الشخص العجيب الذي يجمع كل هذه المواصفات معًا: إنسان، وخالٍ من الخطية، غير مخلوق، وقيمته أكبر من كل البشر مجتمعين!!
أحجية وحلها
لكن إن لم يكن عندنا نحن البشر حل لتلك الأحجية، أفلا يوجد عند الله حل؟ وإذا كانت قد غلقت على البشر إلى الدهر (مزمور49: 8)، فهل استغلقت أيضًا على الله؟ (راجع مزمور68: 20). لما تساءل القديسون الأقدمون: «كيف يتبرر الإنسان عند الله، وكيف يزكو مولود المرأة؟» (أيوب9: 2، 3؛ 25: 4)، ولما لم يعرفوا حلاً لهذه الأحجية، تقدم أليهو - وهو واحد من أصحاب أيوب - بهذا الإعلان العجيب: «إن وُجد عنده (عند الله) مرسل، وسيط، واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته (أي استقامة الله أو بر الله)، يتراءف عليه ويقول: أُطلقه عن الهبوط إلى الحفرة. قد وجدتُ فدية» (أيوب33: 23، 24)، وكأن أليهو يريد أن يقول: ”لو أن الله قصد أن يرتب للبشر من يفديهم، وأرسله من عنده، عندئذ فقط يمكن حل الأحجية“.
فهل وُجد مثل هذا الشخص عند الله؟ نعم، يقول الرسول: «عالمين أنكم أفتديتم»، ثم يذكر لنا من هو الفادي: «المسيح، معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم» (1بطرس1: 19، 20).
إن هذا المُصالِح أمكنه أن يضع يده على الله والناس في آن واحد، وذلك لأنه معادل لله ومعادل أيضًا للناس.
لو لم يكن هو الإنسان لما أمكنه أن يكون نائبًا عن البشر، يحمل خطاياهم ويحتمل دينونتها بالنيابة عنهم. ولو لم يكن هو الله، أو كان هو أقل، ولو قيد شعرة من الآب، لما أمكنه قط أن يوفي الله كل حقوقه.
إذًا فلقد تجسد ابن الله، وقَبِلَ أن يموت فوق الصليب نيابة عن الخطاة، ليمكن لله القدوس أن يقدم أساسًا بارًا وعادلاً لتبرير المذنب الأثيم. هذا المذنب الأثيم ليس أحدًا آخر بخلافنا، أنا وأنت، أيها القارئ العزيز!
لقد سبق الرب وأعلن لموسى قائلاً: «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكنه لن يبرئ إبراء» (خروج34: 6و 7). وهذه العبارة تدل على أن غفران الله للبشر لا يمكن أن يكون من دون أساس، فهذا الأمر يتعارض مع عدل الله، وليس بقبول الخاطئ على حاله، فهذا الأمر يتعارض مع قداسة الله!
إن قداسة الله تعتبر الخطية نجاسة يجب تغطيتها من أمام عيني الله. كما أن بر الله يعتبر الخطية تعديًا، وكل تعد يجب أن ينال مجازاة عادلة (عبرانيين2: 2)، وبهذا يجب أن تتم ترضية عن التعدي الذي حدث. وهذا هو المدلول المزدوج للكفارة: “تغطية وترضية”، تغطية من أمام عيني الله نظرًا لقداسة طبيعته، وترضية لغضبه العادل نظرًا لبره.
وللأسف، كان الإنسان نتيجة سقوطه وشرِّه، متجَنِّبًا عن الله بسبب ضمير الخطايا الذي كان يشعره بالرعب من الله (عبرانيين 10: 2، 22)، والله كان متجنبًا عن الإنسان بسبب الغضب، غضب الله على جميع فجور الناس وإثمهم (رومية1: 18). وموت المسيح الكفاري والنيابي رفع الخطايا وسكَّن الغضب، فأصبح بإمكان الله أن يتقابل مع الإنسان الخاطئ. في كلمات أخرى، فإنه بناء على كفارة المسيح أمكن لله أن ينظر إلى الإنسان بدون غضب، وأمكن للإنسان أن ينظر إلى الله بدون خوف. إذ إن الخطية تغطت، والله ترضى.! أ يوجد خبر أروع من هذا!
ولقد تكفَّل الله بالعمل كله. فإن كان بر الله وقداسته استلزما الكفارة، فإن محبة الله ونعمته جهزتاها. وكما أن قداسة الله جعلت الصليب حتميًا، فإن محبة الله هي التي جعلته ممكنًا.
غفران الله وفداؤه
لقد أعلن الكتاب المقدس مرات عديدة في كل من العهدين القديم والجديد أن الله غفور. فبالإضافة إلى كلمات الرب لموسى التي أشرنا إليها منذ قليل: «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكنه لن يبرئ إبراء» (خروج34: 6و 7).
نقرأ كلمات داود: «باركي يا نفسي الرب, الذي يغفر جميع ذنوبك» (مزمور103: )، وأيضًا «إن كنت تراقب الآثان يا رب يا سيد، فمن يقف؟ لأن عندك المغفرة لكي يُخاف منك» (مزمور130: 3و 4).
ويقول الرب على لسان إشعياء النبي: «أنا أنا هو الماحي ذنوبك من أجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها» (إشعياء43: 25).
كما يقول أيضا على لسان إرميا النبي: «يقول الرب, أني أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد» (إرميا31: 34).
وفي نبوة ميخا يناجي النبي ربه بالقول: «من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب» (ميخا7: 18).
وكما غفر الله في العهد القديم، فقد غفر المسيح الخطايا في العهد الجديد، مما يؤكد أنه هو الله كما تحدثنا قبل ذلك بأكثر تفصيل. لقد قدم المسيح غفرانه لامرأة كانت معروفة بخطيتها في المدينة (لوقا7: 48)، كما غفر للرجل المفلوج الذي قدموه إليه لكي يشفيه (متى9: 2). ولكنه لما كان على الصليب لم يقل للخطاة الذين صلبوه: ”مغفورة لكم خطاياكم“، بل قال: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون».
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لما كان على الأرض قدم الغفران للخطاة، ولم يعمل الشيء ذاته وهو فوق الصليب؟
والإجابة البسيطة على ذلك: إن المسيح في حياته، قَدَّم غفرانًا للخطايا، كما لو كانت الخطايا موجهة إليه هو؟ وقال ”مغفورة لك خطاياك“ باعتبار أن في سلطانه أن يفعل ذلك. ونحن حقا بوسعنا أن نغفر الخطايا التي يرتكبها الناس في حقنا، ولكن لا يستطيع أحد بحال من الأحوال أن يغفر الخطايا المرتكبة ضد الله غير الله. فغفران المسيح إذًا لخطايا الخطاة، لهو دليل أكيد على أن المسيح هو الله. ولقد قال الرسول بطرس عنه: «له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به، ينال باسمه غفران الخطايا» (أعمال 10: 43).
وأما عندما كان المسيح فوق الصليب فقد كان يدفع ثمن جرمنا. ولذا فإنه لم يقل أنا أغفر لكم، فهو كان هناك يدفع الغرم وليس يغفره. أو بكلمات أخرى كأنه قال لله: اغفر لهم وأنا على أتم استعداد أن أدفع الحساب. وفي هذا قال النبي في العهد القديم: «وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين» (إشعياء 53: 12). والحقيقة إنه لو لم يحمل خطية الكثيرين، لما أمكنه أن يغفر خطايا الخطاة على أساس عادل. وفي هذا يتفق تعليم العهد الجديد أيضًا إذ يقول عن المسيح: «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا» (1يوحنا2: 2).
الكتاب إذًا يعلن لنا أن غفران الله ليس بغير أساس، بل أساسه في تلك الكفارة العظمى التي قدمها المسيح على الصليب.
إذًا فكيف أمكن للمسيح أن يغفر الخطايا لما كان هنا على الأرض؟ كيف أمكن للمسيح أن يحل هؤلاء الأشخاص من خطاياهم ودينها الرهيب؟ الإجابة أنه مضى إلى الجلجثة ودفع عقوبة خطايانا عندما مات لأجلنا.
منطقية هذا الفكر
إن كان الله في البداية قد طرد آدم من الجنة نتيجة لخطية واحدة أخطأ بها ضد الله، وإن كان كل نسله قد وُلدوا خارج الجنة في مكان البعد عن الله، فكيف يمكن لله أن يعيد الإنسان ثانية إلى حماه؟ فإنه لو كان الله مستعدًا للتنازل عن حقوقه، ما الذي جعله من البداية يطرد آدم، إذا كان سيعود فيقبله ويقبل نسله مرة ثانية إليه، دون الكفارة اللازمة؟
لكن الوحي الإلهي يقدم لنا الإجابة السديدة عندما يقول: «إن المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا إلى الله» (1بطرس3: 18). فبالخطية تم طرد الإنسان من محضر الله، وبالكفارة تتم إعادته من جديد.
وفكرة الموت النيابي، أو موت كائن بديلاً عن كائن آخر، هي فكرة محفورة بعمق في أعماق التاريخ المقدس القديم. ولعل أوضح إشارة إليها هي ما ورد في سفر التكوين 22، عندما طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه الذي يحبه، فنحن نعرف كيف أن ابن إبراهيم لم يمُت، إذ افتداه الله من الموت، وكانت الفدية بذبح عظيم!
قال أحد الأفاضل: ”لا يدرك كثير من الناس أنه حينما يوجد غفران يوجد ثمن يُدفع. ولنفرض مثلاً أن ابنتي كسرت مصباحًا. فإني كأب محب ومسامح، أجلسها على ركبتي وأطوقها بذراعَي الحنان، وأقول لها لا تبكي يا حبيبتي، فأبوك يحبك ويغفر لك. وحين يسمع الشخص الذي أقص عليه هذا المثل يقول لي: هذا ما يتوجب على الله ببساطة أن يفعله معنا عندما نخطئ. وعندها أسأل: ومن سيدفع ثمن المصباح المكسور؟ حقيقة الأمر أني أنا الذي سأدفعه.
هنالك دائمًا ثمن للغفران. ولنقل مثلا إن أحدهم أهانك أمام الآخرين وأنك سامحته، من يدفع ثمن الإهانة؟ أنت.
هذا ما فعله الله. لقد سامحنا الله، لكنه دفع هو ثمن مسامحته لنا من خلال الصليب.
لذا كان يتحتم على ابن الله أن يظهر في الجسد. وبموته الكفاري فوق الصليب أمكن لله أن يغفر الخطايا.
قصتان
قصة من مصر، والأخرى من أمريكا.
نبدأ بالقصة الأولى من مصر
ذكرت هذه القصة إحدى المجلات الأسبوعية، عن امرأة أرملة رقيقة الحال، من إحدى محافظات الوجه القبلي في مصر، ترعى ابنها الوحيد، عجزت عن تسديد إيجار الشقة. ورفع عليها مالك العقار قضية طرد. ومثلت المرأة أمام القاضي، دون محام، فهي لا تملك أن تقيم من يدافع عنها. وأقرت بأنها تأخرت عن سداد الإيجار وعزت ذلك إلى فقرها الشديد، قالت ذلك والدموع تنهمر من عينيها. ولم يملك القاضي سوى أن يصدر أمرًا بطردها من العقار كما يقول القانون الذي هو يمثله.
لكنه عندما ذهب إلى بيته لم يستطع أن ينام ولا أن يهدأ له بال. لقد كان في المحكمة يمثل القانون، ولكن في بيته تغلبت عليه نوازعه الإنسانية، فماذا يفعل؟ إنه لا يستطيع أن يوقف الحكم القانوني العادل الذي أصدره على المرأة، ولا يملك أن يتجاهل دموع تلك المرأة البائسة. وقبل وصول الشرطة لتنفيذ الحكم ضد المرأة وابنها، كان سبقهم هو ومعه عقد تمليك لشقة متواضعة اشتراها بماله هو، وأهذاها للمرأة المعدمة، لكي تكمل بقية عمرها فيه.
والقصة الثانية التي من أمريكا قصها الكاتب المسيحي المعروف ”جوش ماكدويل“ قال:
قامت شرطة المرور بإيقاف سيارة تقودها شابة، بسبب سرعتها الزائدة. حررت لها الشرطة مخالفة سير، واستدعيت الفتاة للمثول أمام القاضي. تلا القاضي أمامها لائحة الاتهام، وسألها: ماذا تقولين؟ هل أنت مذنبة أم بريئة. أجابت الفتاة مذنبة. وعندها حكم القاضي عليها بأن تدفع مائة دولار غرامة، أو أن تسجن مدة عشرة أيام. ثم حدث شيء مدهش، عندما وقف القاضي وخلع ثوب القضاء وتقدم إلى الأمام وأخرج محفظته ودفع الغرامة.
لقد كان هذا القاضي أباها. وهو أحب ابنته، غير أنه كان قاضيًا عادلاً. كسرت ابنته القانون، فلم يستطع أن يقول لها ”اذهبي بسلام“. طالما أنتِ بنت القاضي فلا خطر ممكن أن يصيبك، لأنه لو فعل ذلك لما كان قاضيًا عادلاً، ولما كان أمينًا على تنفيذ القانون الذي أقسم يومًا بأن يحترمه. لكنه أيضًا أحب ابنته إلى الدرجة التي كان فيها مستعدًا أن يخلع ثوبه القضائي، ويتقدم إلى الأمام ليمثلها كأب، ويدفع عنها الغرامة.
هذا يصور لنا إلى حد ما ما فعله الرب يسوع معنا. فإذ كانت أجرة الخطية موت، وهو ما سيقع حتمًا على كل الخطاة غير التائبين والذين لم يؤمنوا بالرب يسوع المسيح، فلكونه إلهًا محبًا فقد نزل من عرشه في هيئة إنسان، بل استمر في طريقه إلى أن وصل إلى الجلجثة ليمثل المذنبين أمام الله ويدفع نيابة عنهم أجرة معصيتهم وخطاياهم. وليعطيهم عطية الحياة الأبدية مجانا. وكان ثمن هذا كله موت الصليب. فاستعلن أروع ما في قلب الله أعني محبته. الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا.
مجيئان:
عزيزي القارئ: لقد أتى المسيح مرة من ألفي عام، وصنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا (عبرانيين 1: 3)، وبناء عليه أمكن للمبشرين أن يتجهوا بالأخبار السارة لكل ربوع الأرض، فلقد أكمل المسيح العمل (يوحنا19: 30). وكل المطلوب أن تأتي للمسيح كما أنت، فتنال عطية الغفران والحياة الأبدية. يقول الوحي الكريم: «كل من يدعو باسم الرب يخلص» (رومية 10: 13).
على أن القصة لم تنته عند هذا الحد. فسيأتي الرب عن قريب مرة ثانية. وسيكون الأمر مختلفا تماما في هذا المجيء الثاني.
لقد أتى مرة متضعًا ليتألم ويموت، وسيأتي ثانية بقوة ومجد كثير (متى24: 30).
في مجيئه الأول حمل مبذر الزرع وذهب ذهابًا بالبكاء، وفي مجيئه الثاني سيحمل حزمه ويمتلئ فمه بالترنم (مزمور 126: 6)!
في مجيئه الأول وضع نفسه وأطاع (فيلبي 2: 8). وُضِع قليلاً عن الملائكة (عبرانيين 2: 9)، وفي مجيئه الثاني سيأتي وجميع الملائكة معه (متى 25: 31).
إذًا – عزيزي القارئ - هو سيأتي المرة الثانية في صورة مختلفة عما رأيناه عليها في المرة الأولى. فلن يأتي في ضعف بل في قوة، لا في صمت بل بهتاف، لا ليتألم بل ليملك، لا ليخلص بل ليدين!
نعم لا بد أن يجيء المسيح مرة ثانية كما أتي المرة الأولى.
إن ذاك الذي أتى في المرة الأولى ليموت نيابة عن الخطاة الذين أحبهم، سيأتي في المرة الثانية ليدين الخطاة الذين رفضوه واحتقروه. ومن ذا الذي يشك أن هذه اللحظة التي فيها يظهر المسيح للعالم ستكون أعظم لحظة في كل التاريخ. والرب بنفسه هنا يصف تلك الحادثة بأسلوب بسيط وواضح وقاطع.
وأختم حديثي بسؤال: إن كان المسيح سوف يأتي وسوف يظهر قوته العظيمة، فما الذي منعه أن يفعل ذلك حتى الآن؟
الإجابة: ليس لعدم امتلاكه للقوة؛ بل ليعطيك فرصة للتوبة.
سوف يظهر من السماء، وسوف ينصهر هذا الكون المادي ويذوب! يعلن لنا الوحي المقدس أنه يوم ظهور المسيح ستذوب الجبال مثل الشمع (مزمور 97: 5)! لكن الأخطر من ذلك أنه في ذلك اليوم سيذوب لحم الأشرار، وتذوب عيونهم في أوقابها، ويذوب لسانهم في فمهم (زكريا14: 12). ساعتها لن تفيدك التوبة حينئذ، سيكون الوقت قد فات. وسيمضي الرافضون وغير المؤمنين إلى عذاب أبدي. «ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين» (رؤيا14: 11).
ليتك تسرع بالتوبة والإيمان، نحو ذاك الذي أتى من قمة مجده إلى الأرض ليبحث عنك، والذي مات فوق الصليب ليخلصك.