5- المسيح قَبِلَ السجود
المسيح قَبِلَ السجودلم يطلب المسيح - لما كان هنا على الأرض - من أحد أن يسجد له، فهو الذي أخلى نفسه بمحض اختياره، آخذًا صورة عبد، وهو الوديع الذي لم يكن يحاول أن يلفت الأنظار إلى نفسه؛ بل عندما أراد الأشرار، سواء في اليهودية أو الجليل، قتله، ترك المكان واجتاز في وسطهم ومضى (متى 12: 14، 15؛ يوحنا8: 59)، وعندما رفضوا قبوله في قرية للسامريين واقترح عليه تلاميذه إبادة تلك القرية، انتهرهما قائلاً: «لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص» (لوقا9: 55، 56). نعم إنه لم يفعل مثل إيليا: يأمر بنزول نار السماء لتأكل أعداءه (2ملوك1: 10، 12)، ولا مثل موسى الذي دعا أن تفتح الأرض فاها لتبتلع مقاوميه (عدد16: 28-30)! كلا، إن المسيح لم يطلب من الناس السجود له، ولكن الآب قال ذلك، والروح القدس قاد إلى ذلك، وهو – تبارك اسمه - قبل ذلك! وسنقسم حديثنا في هذا الفصل إلى أربعة أفكار هامة تقود كلها إلى النتيجة ذاتها، أن المسيح هو الله: o أن المسيح هو موضوع سجود جميع الخلائق، ونحن نعلم أن السجود لا يليق إلا بالله وحده لا سواه. o والمسيح هو موضوع التمجيد، ولقد قال الله: «مجدي لا أعطيه لآخر» (إشعياء 42: 8). o والمسيح هو موضوع اتكال شعبه. ويعلمنا الكتاب إنه ملعون من يتكل على المخلوق دون الله, o وإليه تُرفع صلوات المؤمنين والأتقياء. ولا يقدر أن يسمع الصلوات ويستجيبها إلا لله.
5.1- المسيح موضوع سجود جميع الخلائق
نحن نقرأ في الأناجيل عن مناسبات كثيرة فيها قَبِل المسيح - لما كان هنا على الأرض - سجود البشر.
والمسيح، بحسب إنجيل متى وحده، قبل السجود في ثماني مناسبات مختلفة. من يهود وأمم، من رجال ونساء، من فرادى وجماعات، قبل الصليب وبعد القيامة.
فلقد سجد له المجوس كما أشرنا في الفصل السابق، ونحن نتحدث عن الآيات التي صاحبت مولده. ولم يكن ما فعله المجوس هنا زلة منهم، باعتيار أنه لم يكن عندهم شريعة ولا ناموس، فيلفت النظر أن المجوس، حين رأوا هيرودس الملك مع كل مظاهر السلطان والجاه التي كانت محيطة به، لم يسجدوا له. لكنهم حين رأوا المسيح، أمكنهم من خلال حجاب الاتضاع وستار الفقر، أن يروا مجده.
وهؤلاء المجوس يذكروننا بحادثة أخرى في آخر حياة المسيح على الأرض، وبالتحديد حين كان معلقًا فوق الصليب، حين قال اللص التائب للمسيح: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لوقا23: 42). لقد رأى فيه اللص أنه الملك وهو معلق فوق الصليب، ورأى فيه المجوس أنه ملك اليهود وهو مازال طفلاً. في بداية المسار سجد له هؤلاء المجوس باعتباره الله، وفي نهاية المسار صلى إليه اللص التائب باعتباره الرب!
ولنلاحظ دقة الوحي هنا في وصف سجودهم، فيقول: «وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع مريم أمه. فخروا وسجدوا له. ثم فتحوا له كنوزهم» (متى2: 11). وتعبير ”الصبي وأمه“ يتكرر 5 مرات، ولا مرة يقول الأم وطفلها. فهو وُلد ليكون الأول. إذ يقول الرسول عنه: «لكي يكون هو متقدمًا في كل شيء» (كولوسي1: 18). وواضح من كلام البشير أن المجوس «خروا وسجدوا (ليس لهم) بل له» فالسجود له وحده.
ويا له من إيمان عظيم، اخترق ما تراه العين البشرية، ليرى ما لا يمكن لغير الإيمان أن يراه! يرى في الطفل الصغير ملك المجد، ورب الكون، فيسجد له! ويرى في المصلوب ملك الوجود ومخلص البشرية، فيصلي له. وأريد أن أقول إننا اليوم عندنا من الأدلة أضعاف ما كان عند المجوس قديمًا، أو اللص التائب من بعدهم؟ فهل نعمل مثلما عمل المجوس فنسجد له سجود الحب؟ وهل نتكل عليه اتكال القلب، ويكون لنا الإيمان الذي يخلِّص؟!
ثم نقرأ مرة ثانية على السجود للمسيح من الأبرص الذي طهره المسيح وشفاه. لقد وثق هذا الأبرص في قدرة المسيح على شفائه، ولا يوجد من يشفي من البرص غير الله. ولهذا فإن هذا الرجل أول ما جاء للمسيح سجد له قبل أن يطلب منه أي شيء. وسجود الأبرص للمسيح، وقبول المسيح هذا السجود منه، له دلالة هامة. ففي أصحاح4، قبل موعظة الجبل مباشرة، رفض المسيح في التجربة تقديم السجود للشيطان، الذي وعده أن يعطيه في المقابل كل ممالك العالم. والمسيح رفض السجود لليطان ليس لأنه شيطان، بل «لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» (متى4: 10)؛ وفي هذا الأصحاح، وبعد الموعظة مباشرة، قبل هو نفسه السجود من هذا الرجل الأبرص. أ ليس لهذا مدلول هام؟
ثم نقرأ في متى 9 عن رئيس مجمع اليهود، كيف أتى ليسوع وسجد له، وطلب منه أن يأتي معه ليقيم ابنته من الموت، وهو ما حدث فعلاً. ومن ذا الذي يقيم الموتى إلا الله وحده؟ فلا عجب أن يسجد رئيس المجمع له.
ثم نقرأ في متى 14: 32و33 أن «الذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين بالحقيقة أنت ابن الله». قالوا ذلك بعد أن شاهدوا، لا معجزة واحدة، بل أربع معجزات عجيبة، لا يقدر على فعل واحدة منها سوى الله، ولقد سبق أن تأملنا فيها في الفصل الثاني ”أعمال المسيح قالت“.
ومرة خامسة قبل المسيح السجود من المرأة الكنعانية في متى 15: 25 ولقد أثبت المسيح لاهوته، عندما أثبت أنه الأقوى من الشيطان القوي، وليس أقوى من الشيطان سوى من خلقه (قارن مع كولوسي 1: 16). ولقد أمكن للرب له المجد أن يخرج الشيطان من ابنة هذه المرأة بكلمة واحدة قالها، رغم أنه كان بعيدًا عن الفتاة المسكونة بالشيطان، وذلك لأنه هو الله الذي لا يتحيز بحدود المكان أو الزمان.
ومرة سادسة قبل المسيح السجود من أم ابني زبدي، إذ أتت وسجدت له قبل أن تقدم طلبها له في متى 20: 20
ثم نقرأ بعد قيامة المسيح من الأموات عن مناسبتين فيهما قدم التلاميذ سجودهم للمسيح. فيقول متى البشير عن المرأتين اللتين ذهبتا إلى القبر في صباح يوم القيامة: «فتقدمتا وأمسكتا بقدميه، وسجدتا له». فالمرأتان لم تقولا كلمة واحدة، لأن سجودهما له أعفاهما عن الكلام. لقد أمسكتا بقدمي يسوع وبهذا أظهرتا له الاعتبار العظيم مع المحبة الشديدة له. وفي مقابل ذلك نالتا برهانًا جديدًا على أن ما رأتاه لم يكن وهمًا ولا خيالاً، بل كان جسد يسوع المقام فعلاً.
والتلاميذ إن كان قد سبق لهم السجود للمسيح قبل الصليب، أما الآن، فبعد قيامته من الأموات، صار لسجودهم مذاق جديد. لكأن هاتين المرأتين قالتا، في قلبيهما، بلغة بني قورح: «لأنه هو سيدك، فاسجدي له» (مزمور45: 11).
والمرة الأخيرة عندما نقرأ عن ظهور المسيح لعدد كبير من التلاميذ، ويقول البشير: «ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا» (متى 28: 17). هذه هي المرة الثامنة في الإنجيل التي فيها يقدم السجود للمسيح من المؤمنين به، والمرة الثانية بعد قيامته له المجد من الأموات. وسوف نعود لهذا الأمر بعد قليل.
وإنجيل يوحنا يتضمن مناسبة واحدة قُدِّم فيها السجود للمسيح، لكن هذه الحادثة لها جمالها الأخاذ، وأعني بها تلك المرة التي سجد فيها الرجل الذي كان أعمى فأعطاه الرب نعمة البصر، بحسب إنجيل يوحنا 9. والحقيقة إن ما عمله المسيح مع هذا الرجل، يعتبر أحد الأدلة على لاهوت المسيح، وهو موضوع إنجيل يوحنا الرئيس. فالله خلق الإنسان في البداية من الطين (انظر أيوب33: 6)، وها المسيح، بوضعه الطين على عيني الأعمى، كأنه يكمل ما نقص من خلقة ذلك الرجل!
إذًا فلقد كان عمانوئيل، الرب الشافي، وسطهم، وسبق له أن فتح أعين عميان كثيرين، لكن كانت الأمة كلها بالأسف في حالة العمى الروحي فلم تبصر شافيها ولا فاديها الذي أتى لنجدتهم. على العكس من ذلك، كان إدراك الرجل الذي كان أعمى فأبصر يزداد: فأولاً عرف أنه ”إنسان يقال له يسوع“ (ع 11)؛ ثم سرعان ما نما في النعمة والمعرفة، وأدرك أنه ”نبي“ (ع 17)؛ ثم أدرك ثالثًا أنه ”من الله“ (ع33). على أن معرفة المسيح أنه ”ابن الله“ كان يستلزم إعلانًا مباشرًا من المسيح، وهو ما فعله المسيح معه فعلاً، إذ وجد الإخلاص متوفرًا.
وعندما تمسّك ذلك الرجل بالولاء للمسيح فقد طرده اليهود خارج المجمع، جردوه من انتسابه الوطني، واعتبروه كجسم غريب فلفظوه، وهو عين ما يحدث مع الكثيرين حتى يومنا هذا. على أن المسيح التقاه في الخارج وسأله: «أ تؤمن بابن الله؟ أجابه ذاك: من هو يا سيد لأومن به؟ قال له يسوع: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو. فقال: أومن يا سيد. وسجد له» (ع35-38).
لقد خسر صاحبنا مكانًا يمكنه أن يقترب فيه، لكي يسجد سجودًا طقسيًا، لكنه وجد شخصًا يمكنه عنده أن يسجد السجود الحقيقي. ونلاحظ أن ذلك الرجل لم يسجد أمام ”إنسان يقال له يسوع“، كما أنه لنبي أيضًا لم يسجد، ولكن لما عرف أن المسيح هو ابن الله فقد سجد له!
ذكرنا أن التلاميذ ليس فقط قبل الصليب، بل أيضًا بعد القيامة من الأموات سجدوا للمسيح. ونلاحظ أن المسيح بحسب مرقس 16: 14 وبخ عدم إيمان تلاميذه، لكننا لا نقرأ في أي مكان أنه وبخهم على سجودهم له. كما أنه وبخ توما على عدم إيمانه بقيامته (بحسب يوحنا 20: 27)، ولكن لما قال له توما: ”ربي وإلهي“ وهي الألقاب التي لا ينبغي أن تقال سوى لله، فإن المسيح لم يوبخه على تجديف قاله، بل قبل منه اللقبين، فهو فعلا ربه وإلهه، بل هو ربنا وإلهنا، كما يشهد عنه ”كل الكتاب“.
ثم بعد الأناجيل تأتي الرسائل وسفر الرؤيا لتواصل الحديث عن ذلك المجد الذي يخص الله دون سواه، فتحدثنا إنه لا بد أن يأتي اليوم الذي فيه كل الخلائق، بشرية كانت أم ملائكية، أم جهنمية، ستسجد له. فيخبرنا كاتب العبرانيين أنه سيأتي اليوم عن قريب الذي فيه ستجثو للمسيح كل الملائكة. فهذا هو كلام الوحي الصريح في افتتاحية الرسالة: «عند دخول البكر إلى العالم (مرة ثانية) يقول ولتسجد له كل ملائكة الله» (عبرانيين 1: 6). وهذه الآية مقتبسة من مزمور 97: 1و7 حيث ترد هناك عن الرب (يهوه) الملك، فيقول: «الرب قد ملك, اسجدوا له يا جميع الآلهة». فيقتبسها كاتب العبرانيين مطبقًا إياها على المسيح ابن الله.
لكن ليس الملائكة فقط، بل كما يقول الرسول بولس إنه سوف: «تجثو باسم يسوع كل ركبة من في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب» (فيلبي2: 10و11).
وحسن أن نعلم أن الآية الأخيرة اقتبسها الرسول بولس من نبوة إشعياء حيث يقول الرب: «أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق، كلمة لا ترجع، إنه لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان (إشعياء 45: 22و23). المتكلم بحسب إشعياء هو الله، ويؤكد أنه له ستجثو كل ركبة، فيقتبسها الرسول بولس مطبقًا إياها على الرب يسوع المسيح، مما يبرهن على أمرين: أولهما أن المسيح هو الله، وثانيهما أنه لن يفلت أحد من السجود لابن الله!
والآن ما المدلول الذي نخرج به من أن المسيح قبل السجود مرات عديدة، وأنه سيأتي الوقت عن قريب وسيجثو له الجميع. الإجابة الوحيدة المنطقية على ذلك، باعتبار أن السجود هو مجد خاص بالله وحده، ولا ينبغي إطلاقًا أن نقدمه للمخلوق مهما كان، أن المسيح هو الله. في العهد القديم قال الله: «مجدي لا أعطيه لآخر». ولذلك فإن كل الأمناء رفضوا مطلقًا أن يقدم السجود لهم، فالرسول بطرس رفض سجود كرنيليوس له، قائلا: ”أنا أيضًا إنسان“ (أعمال10: 25و26)، والرسولان بولس وبرنابا رفضا تقديم الذبائح لهما، لأنهما بشر تحت الآلام نظير من كانوا يريدون أن يذبحوا لهما (أعمال14: 13-15)، والملاك رفض سجود يوحنا في جزيرة بطمس لأنه أيضًا عبد (رؤيا19: 9و10؛ 22: 8و9).
وفي مفارقة مع كل هؤلاء قبل المسيح السجود، لأنه هو الرب، وهو الله.
5.2- المسيح هو موضوع الإكرام والتمجيد في الأرض وفي السماء:
عندما تحدثت المرأة السامرية مع الرب يسوع عن السجود، حدثها عن السجود الحقيقي للآب بالروح والحق. فماذا عن الابن؟ هل يقدم المؤمنون السجود له أيضًا؟ الإجابة نجدها في الأصحاح التالي، عندما قال المسيح لليهود: «لكي يُكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله» (يوحنا5: 23).
ولذلك فلا عجب أن نجد سجود المفديين في السماء موجه إلى الآب والابن، أو بلغة الكتاب للجالس على العرش وللحمل (رؤيا5: 13). وسوف نعود بعد قليل لهذه النقطة.
وبعد القيامة ظهر الرب للتلاميذ وهم مجتمعين، على نحو ما يخبرنا به البشير يوحنا. ظهر لهم في المرة الأولى، ولم يكن توما الرسول معهم. فلما أخبره زملاؤه الرسل بأن المسيح قام من الأموات، وأنهم رأوه، قَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ لاَ أُومِنْ» (يوحنا20: 25). ويستطرد البشير قائلا: «وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ: «سلاَمٌ لَكُمْ». واتجه الرب فورًا إلى توما بالقول: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا وقال له: ”رَبِّي وَإِلَهِي“. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا».
بعض المزوِّرين، ليتحاشوا هذا الكلام الصريح الذي فيه قال واحد من التلاميذ للمسيح إنه ربه وإلهه، قالوا إن توما وقد أخذ بالمفاجأة، كيف عرف المسيح ما قاله، رغم عدم وجود المسيح معهم عندما نطق بهذه الكلمات، فإنه هتف قائلا: ”يا إلهي“، كما تفعل نحن أحيانا عندما نقابل شيئًا مدهشًا وعجيبًا!
وللرد على ذلك نقول أولاً إن معرفة المسيح لما حصل، رغم عدم وجوده مع التلاميذ، يؤكد لنا أنه هو الحاضر الغائب، الذي لا تراه عيوننا لكنه هو يرانا ويسمعنا. وهذه واحدة من صفات اللاهوت لا يشاركه فيه سواه.
وثانيًا: كان اليهود يتحاشون تمامًا استخدام اسم الجلالة في نطقهم العادي، فهم ليسوا نظيرنا الآن ينطقون باسم الله في كل مناسبة وفي غير مناسبة، بل إذ كانوا يوقرون اسم الله كانوا يستبدلونه ما أمكنهم بغيره من المسميات، مثل تعبير ”ملكوت السماوات“ بدلاً من التعبير ”ملكوت الله“، والقول ”أخطأت إلى السماء“ بدلاً من ”أخطأت إلى الله“ (لوقا15: 18)، وأيضًا قولهم للمسيح: ”هل أنت ابن المبارك“؟ بدلاً من قولهم: ”هل أنت ابن الله؟“، وهكذا. ومع أننا كثيرًا ما نستعمل التعبير يا إلهي اليوم للتعبير عن الدهشة، لكن لا يوجد أدنى دليل تاريخي على الإطلاق في أن اليهود كانوا معتادين على استخدام هذا اللفظ كتعبير عن التعجب.
وثالثًا: النص لا يدعنا نذهب إلى هذا الاستنتاج مطلقًا، فالنص يقول: «أجاب توما وقال له: ربي وإلهي». فليس أن توما قال ربي وإلهي، بل ”قال له“، أي قال هذا للمسيح.
وليس توما وحده الذي اعتبر أن الرب يسوع ربه وأنه هو عبده، بل جميع الرسل، فيقول بولس: «بولس عبد ليسوع المسيح» (رومية 1: 1)، ويقول أيضًا: «بولس وتموثاوس عبدا يسوع المسيح» (فيلبي1: 1). والرسول يعقوب يكتب قائلاً: يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح» (يعقوب1: 1). وكذلك فعل الرسول بطرس إذ كتب يقول: «سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله» (2بطرس1: 1). وكذلك أيضًا يهوذا إذ كتب قائلاً: «يهوذا عبد يسوع المسيح» (يهوذا 1). وكما فعل الرسل هكذا فعل باقي المؤمنين، فنقرأ عن أبفراس: «يسلم عليكم أبفراس الذي هو منكم، عبد للمسيح، مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات» (كولوسي4: 12). وقيل عن باقي المؤمنين: «لأن من دعي في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب، كذلك أيضًا الحر المدعو هو عبد للمسيح. قد اشتريتم بثمن، فلا تصيروا عبيدًا للناس» (1كورنثوس7: 22، 23). والعبارة الأخيرة تؤكد لنا أن المسيح ليس واحدًا من الناس.
المسيح موضوع الحب والتسبيح:
إن كل المؤمنين يحبون المسيح. كيف لا وهو قد أحبنا أولاً (1يوحنا4: 19). ولهذا الأمر، الذي قد لا يفكر فيه الكثيرون، أهمية قصوى. وتَرِد في الوحي آيتان في منتهى الأهمية، إذا وضعناهما جنبًا إلى جنب، يتضح لنا المعنى الهام المتضمن فيهما. يقول الرسول: «النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد» (أفسس6: 24)؛ بينما يقول «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا (وهي كلمة أرامية تعني محرومًا من البركة وملعونًا)» (1كورنثوس 16: 22). هكذا إلى هذا الحد! المحبة له تجلب كل البركات، وعدم المحبة له (ولا يقول البغضة له)، تحرم من كل بركة، بل وتجلب اللعنة!
المسيح موضوع تمجيد شعبه
وعن تمجيد الرب يسوع نقرأ قول الرسول: «لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اسْمُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِيكُمْ، وَأَنْتُمْ فِيهِ، بِنِعْمَةِ إِلَهِنَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2تسالونيكي 1: 12).
وفي سفر الرؤيا نقرأ عن مناسبات كثيرة فيها يقدم التمجيد للمسيح.
فيقول الرائي عن المسيح: «له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين» (رؤيا1: 6).
ويقول أيضًا: «وَلَمَّا أَخَذَ السِّفْرَ خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ الْحَمَلِ، وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا 5: 8-10).
وليس المفديين وحدهم بل الملائكة جميعهم أيضًا، وكذلك كل الخليقة ستتحد في تسبيح المسيح فيقول الرائي: «وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ». وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى الْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: «لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا5: 11-13). والعبارة الأخيرة تعني أن التسبيح ذاته الذي يُقدَّم للجالس على العرش (أي الله) هو الذي يقدم للحمل (أي المسيح). فكيف يمكن أن يكون هذا إن لم يكن المسيح هو الله؟
ومرة أخرى نقرأ في رؤيا 7: 10 -17 «وَهُمْ يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «الْخَلاَصُ لإِلَهِنَا الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ». وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ كَانُوا وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالشُّيُوخِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ، وَخَرُّوا أَمَامَ الْعَرْشِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا لِلَّهِ قَائِلِينَ: «آمِينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإِلَهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ» وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ: «هَؤُلاَءِ الْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، مَنْ هُمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتُوا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لِي: «هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتُوا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، لأَنَّ الْحَمَلَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ».
نلاحظ في النص السابق أن العدد العاشر يذكر أن العرش هو عرش الله، إذ يقول في ع10 ”إلهنا الجالس على العرش“، لكن في ع17 يذكر أن الحمل هو الذي ”في وسط العرش“. مما يدل على أن المسيح (الحمل) ليس شخصًا آخر بخلاف الله.
وعن هذا الأمر أيضًا، نقرأ قول الرائي: «وَأَرَانِي نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ اللهِ وَالْحَمَلِ» (رؤ22: 1). لاحظ أنه لا يوجد في السماء عرشان، بل عرش واحد، وهذا أمر مفهوم جيدا لكل إنسان عاقل يؤمن بوجود الله. وطبعًا لا يجلس على العرش الواحد شخصان مختلفان، بل شخص واحد، لأن الله واحد. وهو ما قاله المسيح لليهود «أنا والآب واحد» (يوحنا10: 30).
ونقرأ أيضًا: «وَعَرْشُ اللهِ وَالْحَمَلِ يَكُونُ فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ» (رؤيا22: 3). ونلاحظ في الآية الأخيرة أنه لا يقول يخدمونهما، بل يخدمونه. قواعد اللغة ترجع الضمير إلى آخر اسم في الجملة، فإذا اتبعنا قواعد اللغة، فإن الخدمة تكون منسوبة للحمل، وفي هذه الحالة يكون ”الحمل“، أي الرب يسوع المسيح هو هدف العبادة، مما يدل على أنه الله، لأنه «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد (أي تخدم)» (متى4: 6). ولكن الفهم الروحي يعيد الضمير في الجملة إلى ”الله والحمل“، وذلك لسبب بسيط قاله المسيح وذكرناه قبلا: «أنا والآب واحد». وفي الحالتين نصل إلى النتيجة نفسها أن المسيح هو الله؟
وأيضا نقرأ: «وَلَمْ أَرَ فِيهَا (أي في المدينة السماوية) هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ وَالْحَمَلُ هَيْكَلُهَا» (رؤيا21: 22)، ولا يقول إنهما هيكلاها، ومرة أخرى نقول إن هذا يدل على وحدة الجوهر بين الآب والابن، لأن الآب والابن واحد (يوحنا10: 30).
5.3- هو موضوع إيمان شعبه واتكالهم.
قال الرب لتلاميذه في العلية في ليلة آلامه: «أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بى» (يوحنا14: 1). لاحظ أن الرب لم يقل أنتم تؤمنون بالله، وأطلب منكم أن تؤمنوا بي أيضًا، كما لو كان هناك شخصان يجب أن نؤمن بهما، أو أن إيماننا المسيحى مبني على أمرين متميزين. كلا، بل «أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي*». أ لا يعني هذا بكل وضوح أنه هو الله ؟!
ونلاحظ أن سجان فيلبي عندما سأل بولس وسيلا عما ينبغي أن يفعل لكي يخلص، أجاباه قائلين: «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك» (أعمال 16: 30، 31). ما أعظم هذا! مجرد الإيمان بالرب يسوع المسيح يأتي بالخلاص للشخص، ولأهل بيته. لكن التعليق الذي يكتبه لوقا الطبيب الحبيب لافت للنظر، إذ يقول عن السجان: «وتهلل مع جميع أهل بيته، إذ كان قد آمن بالله» (أعمال 16: 34). ومن هذا أيضًا يتضح لنا أن المسيح هو الله.
وما أكثر البركات التي تصير لنا عندما نؤمن بالمسيح ربًا ومخلصًا؟ يقول الرسول بطرس: «له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا» (أعمال 10: 43). مرة أخرى نقول: ما أعجب هذا! مجرد الإيمان بالرب يسوع يمتع النفس بغفران جميع الخطايا، وهذه هي شهادة، لا واحد من الأنبياء ولا مجموعة منهم، بل جميع الأنبياء!
وإن كان الرسول بطرس ذكر هنا أن غفران الخطايا يناله المؤمن ”باسمه“، إلا أننا من باقي أجزاء الوحي نعرف أن في هذا الاسم الكريم، اسم ربنا يسوع المسيح، ينال المؤمن العديد من البركات:
1- غفران الخطايا: «كتبت إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه (اسم المسيح)» (1يوحنا 2: 12).
2- الخلاص: «لأن ليس اسم آخر (خلاف اسم المسيح) تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أعمال 4: 12).
3- الحياة الأبدية: «آيات أخر كثيرة عملها يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه» (يوحنا 20: 31).
4- يهب الشفاء، وتجرى به القوات: «فقال بطرس (للرجل الأعرج) , باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش , ففي الحال تشددت رجلاه وكعباه , وصار يمشي» (أعمال3: 6-8). ويعلق الرسول بطرس على ذلك بالقول: «بالإيمان باسمه (يسوع) شدد اسمه هذا الذي تنظرونه وتعرفونه, أعطاه الصحة أمام جميعكم» (أعمال3: 16). وفي صلاة التلاميذ قالوا لله: «بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ وَلْتُجْرَ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ بِاسْمِ فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ» (أعمال4: 30).
5- يهب النعمة: «يسوع المسيح ربنا، الذي به، لأجل اسمه، قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان» (رومية 1: 4و5).
6- وإلى هذا الاسم الكريم يجتمع القديسون. قال المسيح: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متى 18: 20).
7- وبهذا الاسم الكريم يرفع المؤمنون صلواتهم، فيستجيب الآب لهم: فيقول المسيح: «وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالاِبْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ» (يوحنا14: 13و14). وأيضًا: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا16: 23و24).
لو كان المسيح مجرد إنسان، أ كان يمكن أن ترتبط باسمه كل هذه البركات العظمى والثمينة؟
والمسيح هو موضوع إيمان شعبه واتكالهم، ونعلم أنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان هو موضوع إيمان وأساس اتكال جماهير المؤمنين، فهذا مجد يخص الله وحده فقط. ويعلمنا الكتاب أنه «ملعون من يتكل على ذراع بشر» (إرميا17: 5)، وأيضًا «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده» (مزمور146: 3). لكن من الجانب الآخر يقول: «مبارك الرجل الذي يتكل على الرب (يهوه)، وكان الرب متكله» (إرميا 17: 7). إذًا فبينما يمنع الوحي الكريم وضع الثقة في البشر، فإنه يحرضنا على وضع الثقة كلها في الله. ويؤكد الوحي بالوضوح عينه أن الإيمان بابن الله له بركات كثيرة، فيقول داود في المزمور الثاني: «قبلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق، لأنه عن قليل يتقد غضبه. طوبى لجميع المتكلين عليه» (مزمور2: 12). ويقول النبي إشعياء: «هأنذا أوسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا، من آمن لا يهرب» (إشعياء28: 16)، فيقتبسها الرسول بطرس مطبقًا إياها على المسيح إذ يقول: «الذي يؤمن به لن يخزى» (1بطرس2: 6).
ولذلك، وبالنظر إلى كل ما سبق، لا عجب إطلاقًا أن قال الرسول بولس: «أرجو في الرب يسوع, وأثق بالرب» (فيلبي2: 19، 24).
5.4- إليه تُرفع الصلوات، وهو يستجيبها
نلاحظ أن الكتاب المقدس يحذرنا من أن نتقدم بصلواتنا إلى أي مخلوق، سواء كان قديسًا من البشر أو الملائكة. ومع ذلك سنجد الآن أن الكتاب المقدس يعلمنا أن نرفع صلواتنا للمسيح، وأنه هو الذي يستجيبها
فمرات عديدة قُدِّمت الصلوات للرب يسوع.
1- الرسل عند اختيار متياس الرسول، وجهوا صلاتهم للرب يسوع قائلين: «أيها الرب العارف قلوب الجميع، عيِّن أنت من هذين الاثنين أيًا اخترته» (أعمال1: 24). ومن البشائر نعرف أن الذي كان يعين الرسل (مرقس3: 13-19)، ويدعوهم (متى10: 1، 5)، ويختارهم (لوقا6: 13-16) هو المسيح. ثم إن الرب يسوع بحسب القرينة في سفر الأعمال أصحاح1 هو الرب يسوع (ع21).
2 - الشهيد استفانوس، شهيد المسيحية الأول، لحظة رقاده، وكان ممتلئًا من الروح القدس، صلى للرب يسوع قائلاً: «أيها الرب يسوع اقبل روحي». مما يدل على إيمانه أن المسيح يقدر أن يسمع صلاته، وعنده القدرة على قبول روحه لحظة رقاده. ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: «يا رب لا تقم لهم هذه الخطية» (أعمال7: 59و60).
1- في أعمال 8: 24 قال بطرس لسيمون الساحر: «اطلب إلى الرب عسى أن يغفر لك فكر قلبك». والرب بحسب ع16 من الأصحاح ذاته هو الرب يسوع.
2- ثم هو هدف دعاء القديسين من البداية، وهو يسمع الدعاء، فيرد قول حنانيا للرب من جهة شاول الطرسوسي: «وههنا له سلطان من قبل رؤساء الكهنة أن يوثق جميع الذين يدعون باسمك» (أعمال 9: 14). والرب بحسب قرينة الفصل هو المسيح (قارن ع5، 6، 17 ولا سيما ع21).
3- يقول الرسول بولس «كل من يدعو باسم الرب يخلص». وهذه الآية مقتبسة من يوئيل 2: 32 حيث ترد عن الرب ”يهوه“، فيقول يوئيل النبي: «ويكون أن كل من يدعو باسم الرب (يهوه) ينجو». ولقد اقتبسها الرسول بطرس في أعمال 2: 21 وواضح من القرنية أنه يطبقها على المسيح. ثم اقتبسها الرسول بولس في رسالة رومية، وواضح أنها لا تنطبق هناك سوى على الرب يسوع المسيح (رومية10: 9- 13).
4- يكتب الرسول بولس للمؤمنين في كورنثوس قائلاً: «إلى كنيسة الله , المدعوين قديسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان» (1كورنثوس1: 2). والمعروف أن المؤمنين من بدء الزمان يدعون باسم الرب ”يهوه“، حيث نقرأ حينئذ ابتدئ أن يدعى باسم الرب» (تكوين 4: 26)، ولكن هنا نقرأ عن الدعاء باسم الرب يسوع المسيح، مما يدل على أن جموع المسيحيين، ومن بداية المسيحية، كانوا معتادين على الدعاء باسم الرب يسوع، وعلى الصلاة له. الأمر الذي يعني أن المسيح هو الله.
5- قال الرسول بولس عن الشوكة التي في الجسد والتي أعطيت له: «من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليَّ قوة المسيح» (2كورنثوس12: 8و 9). واضح أن الرب الذي تضرع إليه الرسول هو المسيح، فلقد قال له: ”قوتي في الضعف تكمل“، وتحقق له ذلك إذ حلت عليه ”قوة المسيح“. مما يدل على أن الرب الذي صلى له هو المسيح.
6- الرسول بولس قدم صلاة موجهًا صلاته للمسيح مقرونًا بالآب، فيقول: «وربنا يسوع المسيح نفسه، والله أبونا يعزي قلوبكم، ويثبتكم في كل كلام وعمل صالح» (2تسالونيكي2: 16و17). ولاحظ أنه بعد أن وجه الكلام إلى الرب يسوع وإلى الله الآب، لم يستخدم صيغة المثنى بل المفرد، فلم يقل ”يعزيان“، بل ”يعزي قلوبكم“؛ وذلك لاتحاد الجوهر، رغم تعدد الأقانيم في اللاهوت الأقدس.
7- يوجه الرسول بولس الشكر للرب يسوع قائلاً: «وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا، الذي قواني، أنه حسبني أمينًا إذ جعلني للخدمة» (1تيموثاوس1: 12).
8- يقول الرسول يوحنا: «كَتَبْتُ هَذَا إِلَيْكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِاسْمِ ابْنِ اللهِ. وَهَذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا الطِّلْبَاتِ الَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ» (1يوحنا5: 13-15). الضمير في العبارات السابقة كلها يعود على ابن الله، الذي هو المسيح مما يدل على ضرورة موافقة صلواتنا لمشيئته، وأنه هو الذي يسمع لنا، وثالثا أننا نطلب منه، بمعنى أننا نوجِّه الصلوات للمسيح ابن الله.
9- يُختم العهد الجديد بنداء ودعاء للرب يسوع، إذ يقول يوحنا الرائي بلسان كل القديسين: «آمين تعال أيها الرب يسوع» (رؤيا 22: 20).