تاريخية العهد الجديد
العهد الجديد كوثيقة تاريخيةلم يوجد أي كتاب عبر التاريخ تلقى الكمية الهائلة من النقد والتشكيك اكثر من الكتاب المقدس. هذا الكتاب الذي جذب اهتمام الكثيرين، من محبين وكارهين، من مؤيدين ومشككين، لا يزال حتى الآن مركز اهتمام الكثير من الدارسين. فهو اكثر الكتب انتشارا في العالم واكثر الكتب ترجمة الى لغات ولهجات، بعهديه القديم والجديد. نستطيع أن نفهم انتقادات على العهد القديم كونه امتدت كتابته على مدى الف عام حيث قلت نسبيا الكتابات وقل الدارسين والباحثين، مع أني كتبت عن صحة تاريخية العهد القديم. لكن العهد الجديد كُتب في عصر أبدعت فيه الحضارة اليونانية والرومانية في التدوين. فلماذا ما زالت الشكوك في العهد الجديد الى يومنا هذا؟ وهل هذه الشكوك مبررة؟ هذه الاسئلة دفعتني الى التحدث تاريخية العهد الجديد واسأل هذا السؤال: هل نستطيع ان نأخذ العهد الجديد كوثيقة تاريخية؟
صدقية الكاتب
إذا أردنا ان نأخذ أي وثيقة تاريخية على أنها يمكن أن نعتمد عليها في إعطائنا معلومات تاريخية صحيحة، يجب أن نتأكد من أن الكاتب هو شخص موثوق به ويمكن أن نأخذ كلامه بجدية. لدينا عدة طرق للتأكد من ذلك، لكن من أقوى الاساليب هي أن يكون الكاتب صادق وقد عاين الاحداث التي يتكلم عنها في كتاباته او أخذها عن شخص عاين الاحداث ومن ثم ودونها بكل امانة. إننا نشدد على هذه الناحية من صفات الكاتب لأننا هذا ما نراه في كتّاب العهد الجديد. يوجد بين أيدينا الكثير من البراهين التي تساعدنا على كسب ثقة تفوق تلك المعتمدة في تقييم كتابات تاريخية اخرى على مر الزمن.
أي كاتب في التاريخ يمكن أن نقرأ كتاباته ونأخذ منه الأحداث التي حصلت في الزمن البعيد. لكن تواجهنا معضلة وهي كيفيّة التأكد من صدقية تلك المعلومات والى أي درجة يمكن أن نعتمد عليها؟ انه من الجيد أنه يوجد أساليب للتأكد من ذلك وهو أحداث تاريخية وصلتنا من مصادر اخرى والتي تساعدنا في المقارنة مع ما قاله الكاتب فنكتشف مدى دقة كلامه.
وبهذا نتوصل إلى العبارة الفاحصة التي يجب أن نعمل على برهانها: إذا كُتِب العهد الجديد من قِبَل شهود عيان أو معاصرون للأحداث، إذا يجب أن تكون الحقائق التي ذكروها صحيحة مقارنة مع ما ورد من مصادر اخرى. وبعبارة اخرى، إذا ما أراد أحد أن يتكلم مثلاً عن المسيح وتلاميذه والرسل يجب أن تكون معلوماته التي ذكرها صحيحة من الناحية الاجتماعية وثقافية والسياسية والشخصيات التاريخية والعادات التي كانت سائدة في تلك الحقبة. فعليهم أن يحددوا بوجه الصحيح كل البلدات والحكام والتفاصيل الحضارية والجغرافيّة المنطقة المذكورة دون خطأ.
يسهل علينا الآن أن نعمل بحث عن تلك الحقائق استنادا على كتابات تاريخية وأبحاث أشخاص عبر التاريخ ومقارنتها بعضها ببعض. لكن هذا كان من الصعب عمله في الازمنة العابرة وهذا ما كان ليفضح أي مزوّر للتاريخ كما نرى في عدة كتابات قديمة مثل تلك المنحولة والمزيفة دون أن نذكر أساميها.
ماذا نرى في الكتابات التاريخية عن موضوع العهد الجديد؟ (1) شهادة علمانية لحياة يسوع وخدمته (2) تأكيد الاكتشافات الاثرية (3) التوافق مع التاريخ القديم
1- شهادة علمانية لحياة يسوع وخدمته
لدينا سبعة مصادر خارج العهد الجديد والتي توثق المعلومات التي ذكرت فيه وخاصة التي تتعلق بحياة يسوع المسيح: يوسيفوس، لوسيان، مارا بار سيرابيون ، بليني، سوتونيوس، تاسيتس، والتلمود. سوف نذكر أقوال ثلاثة منهم: تاسيتس، يوسيفوس، والتلمود. هذه المصادر لها اهميتها وهي تساعدنا في حجتنا في اثبات تارخية العهد الجديد لأنها ليست متعلقة مباشرة بالمسيحية ولا يوجد اي اسباب دينية تبني عليها ما ذكرته. ومع ذلك، فهي تذكر شخصيات وأحداث كما جاءت في العهد الجديد بالاسماء والوقائع كما سنرى في المقاطع التالية.
أ. شهادة تاسيتس
بابليوس (أوغايوس) كورنِليوس تاسيتُس (55-120م). كان مؤرخاً ورئيس قضاة في إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية. يعتبر تاسيتس أحد كتاب الحقبة الأخيرة من العصر الفضي للأدب اللاتيني. ما يهمنا في كتاباته أنه كتب عن نيرون والنار التي اندلعت في روما سنة 64 م واضطهاد المسيحيين بجعلهم كبش محرقة لصرف النظر عن الفاعل الحقيقي لحريق روما، نيرون نفسه. رغم كونه اممي وكتاباته تاريخية غير دينية، أشار تاسيتس إلى يسوع وإعدامه على يد بيلاطس البنطي في اليهودية، ووجود المسيحيين الأوائل في روما وعلاقتهم بمنطقة اليهودية، في عمله الأخير، الحوليات (The Annals) في المقطع التالي:
"شدد نيرون الذنب وألحق أفظع أشكال التعذيب بفئة مكروهة بسبب رجاساتهم، يطلق عليهم المسيحيون من قبل الجماهير. عانى المسيح، الذي نشأ منه الاسم، من العقوبة القصوى في عهد طِيباريوس قيصر على يد أحد وكلاءنا، بلاطس البنطي."
وهنا نرى ذكر موت المسيح على يد بلاطس البنطي والذي كان حاكم اليهودية (راجع النص الاصلي) في عهد طيباريوس قيصر الأمبراطور الروماني. وهذا يتطابق مع ما ذُكر في الاناجيل عن موت المسيح بدقة تاريخية وسياسية وجغرافية واجتماعية. والجدير بالذكر أن تاسيتس لم يؤمن بالمسيحية ولا حتى يتعاطف معهم بل يعاديهم. ويظهر ذلك من خلال كتاباته ومن المقطع المذكور سابقا، إذ ينعتهم بأنهم مكروهون وأنهم يفعلون الرجاسات. وما يهم في هذا الامر اننا بدون شك يمكننا أن نضع تاسيتس في خانة الانسان المعادي للمسيحية وليس له اي مكسب في الحشد لهم او لمبادئهم وايمانهم. فأي ذكر له للمسيحية إما سيكون افتراء، في حالة التهجم عليهم عن قصد، او شهادة، في حال الكتابة عن امور يعتبرها عادية لا تقدّم ولا تؤخر فيذكر الاحداث التاريخية كما هي. وهذا ما يُعرف في علم النقد بالشاهد المعادي الذي يفي بمعايير الاحراج، أي ان ما يقوله يحرج موقفه. وهذا ما يثبت صحة اقواله.
ب. شهادة يوسيفوس
يوسيفوس فلافيوس (Josephus Flavius) أو اسمه العبري الأصلي يوسف بن ماتيتياهو (38-100 للميلاد، تقدير) كان أديبا مؤرخا وعسكريا يهوديا عاش في القرن الأول للميلاد واشتهر بكتبه عن تاريخ منطقة يهوذا.
a. شهادة عن شخصية يسوع
بالتشديد على كون يوسيفوس يهودي، فهو أيضا تنطبق عليه صفة الشاهد المعادي وتكوّن شهادته هذه احراجا بسبب أن اليهود كانوا لا يؤمنون بالمسيح. وهذا يزيد من مصداقية قوله من كتابه الشهير، عاديات أو آثار اليهود (Antiquities of the Jews):
" الآن كان هناك في هذا الوقت يسوع، رجل حكيم، إذا جاز تسميته رجلاً؛ لأنه كان عاملا في الأعمال الرائعة، ومعلما لهؤلاء الرجال الذين يقبلون الحق بسرور. لقد جذب إليه الكثير من اليهود والأمم. كان هو المسيح. وعندما حكم عليه بيلاطس، بناء على اقتراح من الرجال الرئيسيين بيننا، بالصليب، لم يتركه من أحبوه في البداية؛ لانه ظهر لهم حيا في اليوم الثالث. كما تنبأ به الأنبياء الإلهيون وعشرة آلاف أمر رائع آخر يخصه. وسبط المسيحيين المسمى بهذا الاسم لم ينقرض في هذا اليوم."
وهنا نرى أيضا شهادة اخرى عن المسيح كشخصية تاريخية مؤثرة جذبت الكثير من التلاميذ والتابعين، وأنه كان "عاملا في الأعمال الرائعة" أي أنه صنع العجائب التي تُبرهن أنه لم كن انسانا عاديا ولذلك قال "إذا جاز تسميته رجلاً". فلا يمكن إذاً، بحسب يوسيفوس نفسه، إلا ان يكون صادقا في كل تعليمه، بالإضافة انه كان رجل حكيم، وليس بمختل كما تصفه بعض الكنابات اليهودية. وأنه صلب على يد بيلاطس البنطي بسبب رؤساء اليهود.
b. اعتراض على صحة نص يوسيفوس
رغم اعتراض بعض الباحثين على أن يوسيفوس كان رجلا يهوديا ولا يمكن أن يعترف بأن يسوع هو المسيح. من البارزين في هذا النقد هو شلومو پينيس الذي في كتابه حارب شهادة يوسيفوس عن أن يسوع هو المسيح واعتبرها منقّحة مستشهدا بترجمة عربية لأغابيوس. لكن حتى في حذف هذا الجزء من المقطع فهو لا زال يشهد عن تاريخية المسيح وحادثة موته مطابقة لما ذُكر في الاناجيل. فمن الجيد انه لا زال بين أيدينا النص المطابق للأصل والمترجم الى العربية من اعمال أغابيوس في كتابه "كتاب العنوان":
"ولذلك يوسيفوس العبراني فإنه قال في ميامره التي كتبها على شر اليهود أنه كان في هذا الزمان رجل حكيم يقال له يسوعا وكانت له سيرة حسنة وعلم انه فاضل وانه يتلمذ له كثير من الناس من اليهود وساير الشعوب وكان فيلاطس قضى عليه بالصلب والموت والذين تتلمذوا له يدعوا تلمذته وذكروا أنه ظهر لهم بعد ثلثة أيام من صلبه وأنه عاش. فلعله هو المسيح الذي قالت عنه الانبياء الاعاجيب."
c. رد على الاعتراض
حتى في هذا الاقتباس ليوسيفوس من قِبَل أغابيوس يشهد عن تاريخية المسيح وتعاليمه المغايرة لتقليد اليهود في تلك الفترة لأنه تلمذ منهم الكثير ولذلك كرهه اليهود. ويذكر ايضا أن بيلاطس حكم عليه بالموت. فلا حجة لأن يحكم عليه بيلاطس بالموت إلا إذا كان اليهود قد كرهوا يسوع وأرادوا هم ذلك. ويذكر المقطع قيام يسوع المسيح من الاموات بشهادة تلاميذه. وينتهي الاقتباس بجملة تساؤلية ان لعله هو المسيح المنتظر، الامر الذي يدل على اقتناعٍ ما ليوسيفوس بمسيحية يسوع.
d. ذكر يوسيفوس ليعقوب
يذكر يوسيفوس أيضا يعقوب أخا يسوع ويوحنا المعمدان وكيف أن هيرودس انتيباس قطع رأسه. كما يذكر أسماء قادة في الامبراطورية اليونانية التي تطابق ما ذُكِر في العهد الجديد.
فنرى أن يوسيفوس ذكر (1) تاريخية شخص يسوع (2) كان معلما صالحا (3) العديد من اليهود والامم أصبحوا من أتباعه (4) حكم عليه بالصلب من قِبَل بيلاطس البنطس (5) شهد تلاميذه انه قام من الاموات (6) يعقوب هو أخا يسوع (7) هيرودوس أنتيباس قتل يوحنا المعمدان.
ج. التلمود البابلي
التلمود هو النص المركزي لليهودية الحاخامية والمصدر الأوّل للشريعة الدينية اليهودية واللاهوت اليهودي. قبل مجيء الحداثة، كان التلمود هو الكتاب المحوري للحياة الثقافية في كل المجتمعات اليهودية، وكان مؤسّسًا «لكل الفكر والأمل اليهودي»، و«هاديًا في الحياة اليومية» لليهود. يتمسّك اليهود بالتلمود كونه كتاب مقدس لديهم وايضا يؤمنون بصحة بكل ما جاء فيه من تعاليم اتت من الرؤساء اليهود. عبر التاريخ كان هنالك عدائية بين اليهود والمسيحيين اذ يعتبر الفريق الاول أن الآخرين هم شيعة وخوارج اتوا لكي ينشروا البدع بينهم. واما الفريق الثاني فقد عانى من اضطهاد في البداية وثم رد "الجميل" عبر القرون اللاحقة. ويعتبر اليهود ان يسوع قد اتى الى مجتمعهم ليضل الشعب واخذوا في تلفيق الاكاذيب عنه لكي يشوهوا صورته بين رعاياهم. لكن رغم كل هذا، نرى بعض الامور التي لم ينكروها عن المسيح باعتبار انها لا تمس بمعتقداتهم و لا يمكن نكرانها بسبب الشهود. لكن نشدد على مقطع جاء فيه حديث عن يسوع عند صلبه وموته والوقت الذي حدث في هذا العمل.
يذكر التلمود البابلي المقطع التالي:
"عشية الفصح عُلِق يسوع. لمدة أربعين يومًا قبل تنفيذ الإعدام، انطلق أحد المنادين الرسميين وصرخ، "إنه ذاهب ليُرجم لأنه مارس السحر وأغوى إسرائيل على الردة. أي شخص يستطيع أن يقول أي شيء لصالحه، ليتقدم. "ولكن بما أنه لم يتم تقديم أي شيء لصالحه، فقد عُلِّق عشية عيد الفصح."
نرى من خلال المقطع المذكور كيف أن اليهود أرادوا أن يرجموا يسوع (يوحنا 8: 59) وأن يسوع صلب عند الفصح (متى 26: 2) وأنه قاد الكثير من اليهود بعيدا عن السلطة الدينية السائدة آنذاك. ويذكر أيضا محاكمة يسوع وأنه كان صانع لعجائب مع العلم أن اليهود كانوا معتادين على وصف العجائب التي صنعها يسوع بأنها سحر وذلك للتشهير به وتكفيره. لكن بذلك يذكر التلمود ان يسوع كان له أعمال عجائبية لم يستطع اليهود المعادون ان ينكروها. وهذه شهادة من عدو لو أراد تكذيب الامر لفعل ذلك.
د. يوليوس أفريكانوس
سكستوس يوليوس أفريكانوس (مؤرخ مسيحي) (من مواليد القرن الثاني وتوفى في حوالي 250 م ) يعرف بأنه أول مؤرخ انتج التسلسل الزمني العالمي، بعض الأدلة تشير على أنه من اصول رومانية ولكنه يدعي بأنه من مواليد القدس. في كتابه كرونوغرافيا، يذكر يوليوس نقلا عن فليجون و تالوس أنه كان في فترة زمنية قريبة لزمن موت المسيح حيث حصلت ظلمة على الارض. فيتكلم عن المسيح وشفاءاته الجسدية والروحية وعن تعليمه المميز وقيامته من الاموات حسب اقوال تلاميذه. ويضيف أن في ذلك الوقت حصلت ظلمة على كل الارض والتي ذكرها تالوس في كتابه الثالث ل"التاريخ" وكان الظلام بدون أي سبب. وينقل عن فليجون أنه في زمن طيباريوس قيصر كان كسوف للشمس من الساعة السادسة الى الساعة التاسعة، ورافق ذلك زلزلة للأرض.
2- تأكيد الاكتشافات الاثرية للشخصيات
معظم ما نجده في علم الآثار هو موافق لما جاء في الكتاب المقدس الى حد كبير. يقول بول ماير، المؤرخ وروائي أمريكي، أن 85% من الاكتشافات الاثرية تطابق تماما ما ذكر في الكتاب المقدس، ويمكن الجدال في ال15% الباقية. وهذه نسبة عالية جدا خاصة ان ال15% يحويها غموض وليس تأكيد مباشر. نذكر بعض الاكتشافات الاثرية التي توافق الكتاب المقدس.
أ- حقيقة وجود شخصية بيلاطس البنطي
بيلاطس البنطي، اسمه الكامل بالاتينية ماركوس بونتيوس بيلاتوس، ولد في سنة 10 قبل الميلاد وتوفي بعد 36 م، الحاكم الروماني على اليهودية بين سنة 26 و 36 ميلادية تحت حكم الإمبراطور طيباريوس الذي وترأس محاكمة يسوع وأصدر الأمر بصلبه. ذُكِر بيلاطس في الاناجيل الاربعة وأعمال الرسل وأيضا في رسالة الاولى الى تيموثاوس. بما ان بيلاطس له العلاقة المباشرة في الحكم على يسوع المسيح بالموت صلبا، الحدث المركزي لدي المسيحيين، لذلك في القرن التاسع عشر، كثير من المشككين نكروا وجود شخصيته. لكن في سنة 1961 تم ايجاد نقش في القيصرية تقول "إلى طيباريوس، بيلاطس البنطي، والى اليهودية" وهو ما يؤكد تاريخية شخصية بيلاطس وأنه حكم على اليهودية في أيام الامبراطور طيباريوس. وأيضا اعتقد المشككون أن لوقا لم يكن يعلم ما كتبه عن ليسانيوس كرئيس الربع على الأبيليّة لأن التاريخ يقول أنه عاش قبل ذلك وحكم كرئيس الربع خالكيذا بحسب يوسيفوس. لكن وجد نقش في الأبيلية تعود الى أيام طيباريوس، تذكر ليسانيوس كرئيس ربع، كما دون لوقا في انجيله. كان هنالك حاكمان بنفس اسم ليسانيوس وكان لوقا محقا.
ب- حقيقة وجود شخصية هيرودس
هيرودس الكبير، ولد في جنوب فلسطين سنة 73 قبل الميلاد وتوفي سنة 4 قبل الميلاد في أريحا اليهودية. كان من اصول أدومية ودخيل يهودي. كان ملك يهوذا المعيّن من قبل الرومان (37-4 قبل الميلاد) ، الذي بنى العديد من القلاع والقنوات والمسارح والمباني العامة الأخرى وزاد بشكل عام ازدهار أرضه ولكنه كان مركز المؤامرات السياسية والعائلية في سنواته الأخيرة. اشتهر في العهد الجديد بأنه من قتل اولاد بيت لحم اليهودية واراد ان يقطل الولد يسوع. وهذا ما يثبت دمويته وخوفه على الحكم حتى من اقربائه الذين تآمروا عليه. وهذا ما يفسر خوفه من يسوع الملقب ملك اليهود الذي ظنه مشروع مؤامرة على مُلكه.
عُرف لوقا بدقته في التأريخ وحرصه أن تكون كتاباته دقيقة الى أقصى قدرته. فنرى في انجيله الذي هو رسالة الى ثاوفيلس يكتب "رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق،" (لوقا 1: 3). من الاكتشافات أيضا التي تثبت حقيقة شخصية هيرودوس الكبير (لوقا 1: 5) هي ايجاد قطع نقدية تعود النقوش عليها الى هيرودوس. وايضا تم العثور على قصر هيرودوس أنتيباس، ابن هيرودوس الكبير.
ج- حقيقة وجود شخصية غاليون
وتم ايجاد نقوش في دلفي بقرب من هيكل أبولو في اليونان تذكر غاليون والذي ذُكر في أعمال 18: 12 على أنه تولّى على أخائية والتي كانت إقليم كان في الأصل جزءًا من بلاد اليونان في الجنوب في شبه جزيرة البلبونيس.
إن ما يسمى نقش غاليو (جدول 1) هو عبارة عن مجموعة من تسعة أجزاء، لرسالة كتبها الإمبراطور الروماني كلوديوس عام 52 م. تم العثور على هذه الأجزاء في دلفي، بالقرب من معبد أبولو، في اليونان. في نقش غاليو، يصف الإمبراطور الوضع المحزن في دلفي في القرن الأول بعد الميلاد، عندما لم يعد هناك مواطنون يعيشون في المدينة. يكتب كلوديوس عن تلقيه نصيحة حول هذا الموضوع من نائب حاكم يُدعى غاليو، السناتور الروماني الذي رفض التهمة التي وجهها اليهود ضد بولس في سفر أعمال الرسل. وبالتالي، فإن النقش يمثل علامة أثرية مهمة في إعادة بناء التسلسل الزمني لحياة بولس.
د- حقيقة وجود شخصية أراستوس
في سنة 1929 تم العثور على نقوش (جدول 2) في شمال شرق مسرح مدينة كورنثوس في اليونان والتي تم تأريخها الى منتصف القرن الاول والتي كنب فيها "أراستوس مقابل مساعدته بوضع الرصيف على نفقته الخاصة". اراستوس كان خازن المدينة بحسب الرسالة الى رومية 16: 23 " يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ غَايُسُ مُضَيِّفِي وَمُضَيِّفُ الْكَنِيسَةِ كُلِّهَا. يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ أَرَاسْتُسُ خَازِنُ الْمَدِينَةِ، وَكَوَارْتُسُ الأَخُ". وأيضا ذُكر في أعمال 19: 22 وفي 2 تيموثاوس 4: 20. والنقوش تشير الى عمله في وظيفة عامة والتي خدم فيها المدينة لذلك وضع حجر في الرصيف ونقش على اسمه. وكان يُعتبر من السبعين تلميذ الذين ذُكروا في انجيل لوقا.
هـ - حقيقة وجود شخصية فيليبوس
في سنة 2011، فريق من علماء الآثار الايطاليين عثروا في مدينة هيرابوليس في تركيا اليوم على قبر فيليبوس، احد تلاميذ يسوع الاثني عشر. وأيضا عثر علماء الآثار على قبر عائلة قيافا الذي كان البارز في محاكمة يسوع وقد كُتب عليه "مريم ابنة يشوع بن قيافا، كاهن معزية من بيت إمري".
3- تأكيد الاكتشافات الاثرية للمدن
ذكر العهد الجديد العديد من المناطق والمدن التي كانت موجودة في زمن المسيح والتلاميذ. مع مرور الزمن، تغير الكثير من اسماء تلك المدن وايضا بعضها زال من الوجود. فقدت الذاكرة البشرية الكثير من التفاصيل وهذا ما وضع صحة وجود تلك المناطق على ارض الواقع. وفي طبيعة الحال، استغل نقاد الكتاب المقدس لهذا الواقع وبدأوا بالتشكيك بصحته على اساس انه يتضمن اسماء اماكن لا وجود لها. لكن الحفريات المتتالية بدأت بإظهار آثارات تدل على وجود تلك المدن في الاماكن الجغرافية بحسب وصف العهد الجديد وتعود تأريخها الى ذلك الزمن. علم الآثار لم يجد فقط شخصيات ذُكرت في العهد الجديد، بل أيضا أسماء اماكن وقرى مثل بيت لحم.
أ - حقيقة وجود مدينة بيت لحم
مدينة بيت لحم هو مكان ولادة المسيح والذي يحتفل به كل المسيحيين كل سنة في عيد الملاد وهو العيد الاكثر شهرة في العالم. في سنة 2012 تم العثور على اقدم قطعة أثرية ذُكر عليها اسم بيت لحم مكان ولادة يسوع المسيح، وكانت مكونة من نوع من الطين في شكل يُدعى البلى او ختم. وهذا الاكتشاف فريد من نوعه اذ انه الاول الذي يذكر اسم بيت لحم خارج الكتاب المقدس، وهو ما يثبت صحية وجود بيت لحم في ايام المملكة اليهودية وحتى قبل ذلك. يعود تاريخ هذا الختم الى القرن السابع او الثامن قبل الميلاد.
ب - حقيقة وجود مدينة الناصرة
تُعتبر الناصرة من أهم المدن فلسطين التاريخية. فهي تبعد عن أورشليم حوالي 105 كلم الى الشمال. فهي المدينة التي تربى فيها يسوع المسيح وعمل فيها كنجار وبسببها لقب بيسوع الناصري، وايضا المكان الذي بشر فيه الملاك جبرائيل مريم العذراء عن ولادة المسيح. وبالتالي فهي اصبحت من اهم المدن للتراث المسيحي. وهي ذُكرت في العهد الجديد 29 مرة. في سنة 2009 اكتشف علماء الآثار اول مكان سكن في الناصرة والذي يمكن تأريخه الى زمن يسوع. هذا المكان يحتوى على 50 منزلا منتشرة في بقعة مساحتها 1,6 هكتار.
ج - حقيقة وجود قرية كفرناحوم
أيضا من االقرى المهمة في العهد الجديد هي مدينة كفرناحوم التي في دائرة بحيرة طبريا والتي اشتهرت آنذاك باصطياد السمك. زارها الرب يسوع عدة مرات وبات فيها وعلم في مجامعها وتنبأ عنها. هناك مدح قائد المئة على ايمانه وهناك اخرج الاستار من فم السمكة، وايضا هناك شفى المفلوج الذي انزله رفاقه من السقف وأظهر الوهيته بغفران الخطايا. لذلك هذه المدينة هي ايضا ذات اهمية في العهد الجديد.
تم اكتشاف قرية كفرناحوم التي مركز خدمة يسوع والتي كانت مكان اقامة النبي ناحوم. وتم اكتشاف الحيطان التي بنيت من الحجر البازلتي الاسود لمجمع اليهود في القرية الذي وعظ فيه المسيح في عدة مناسبات والذي يعود تاريخه الى القرن الاول. كان قد بني عليه مجمع أخر في الزمن البيزنطي. يذكر العهد الجديد عن كفرناحوم عندما صنع عجيبة لقائد المئة الذي بنى المجمع (متى 8: 5-13؛ لوقا 7: 1-10). وحتى بيت بطرس حيث مكث يسوع عدة مرات وشفى حماة بطرس تم اكتشافه على بعد 25 متر جنوب المجمع.
د- حقيقة وجود بركة بيت حسدا
بعد 100 عام من البحث، تم اكتشاف بركة بيت حسدا في اورشليم حيث شفى يسوع المشلول الذي لم يستطع ان ينزل في الماء عندما يحركها الملاك. على عكس بركة سلوام التي تم اكتشافها سنة 2005 وتم التعرف عليها سريعا. عندما شفى يسوع المفلوج في إنجيل يوحنا، توصف بركة بيت حسدا بأنها تحتوي على خمسة أروقة – وهي ميزة محيرة تشير إلى بركة غير عادية لها خمسة جوانب، والذي رفضه معظم العلماء باعتباره ابداعا أدبيًا غير تاريخي. ومع ذلك، عندما تم التنقيب في هذا الموقع، وكشف عن حوض مستطيل به حوضان يفصل بينهما جدار – وبالتالي بركة خماسية الجوانب – ولكل جانب رواق.
4- تأكيد الاكتشافات الاثرية لاشياء معاصرة
ساهمت الحفريات أيضا على اكتشاف آثار تعود الى حقبة العهد الجديد وهي تعبّر عن الحضارة التي سادت آنذاك وتتطابق مع ما ذكر في الكتاب المقدس. الكثير من الكتابات المنحولة فشلت أمام فحص الحقيقة لأنها لم تراعي حضارة تلك المنطقة. لكن الاكتشافات الاثرية كلما زادت أظهرت المزيد من التأييد لما كتب في العهد الجديد.
أ – اكتشاف قارب صيد سمك
ليست فقط الاسماء والاماكن التي اكتُشِفت تثبت تاريخية العهد القديم لكن أيضا هناك اكتشاف لقارب (جدول 3) ذات صفات ومقاييس يحاكي تلك المذكورة في العهد الجديد (جدول 4). في سنة 1985، انخفض منسوب المياه في بحر الجليل بنسبة كبيرة بسبب الجفاف الذي حل في تلك المنطقة. وهذا ما جعل جزء من باطن البحر الموحل يظهر الى العيان. فظهر بسبب ذلك بقايا قارب للصيد على بعد 1.5 كم شمالي قرية مجدل، من حيث أتت مريم المجدلية. لقد حافظت الوحول التي احاطت بالقارب على وضع القارب بحالة جيدة. كان طول القارب 8 أمتار. حدد الفحص الأولي أن البناء على شكل نقر ولسان (جدول 5)، أي الطريقة المستخدمة لووصل الاخشاب ببعضها البعض ذكرا وأنثى، كان قيد الاستخدام في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ما بين القرن الثاني ق م حتى نهاية العهد الروماني. ويشير الفحص الكاربوني المشع، وتاريخ تلك المنطقة، وبعض النقود التي عُثرت فيه تدل على أن القارب هو من زمن ما بين القرن الاول ق م الى القرن الاول ب م.
ب – اكتشاف قصر هيرودوس
ابتدأ عالم الحفريات "أميت رائم" سنة 1999 في بحثه عن بقايا قصر هيرودوس وقسم من حائط من القرن الثاني ميلادي. كان الموقع مُعد لكي يكون معرضا باسم "برج داود". كان الموقع الذي بحث فيه هو مكان استخدمع العثمانيون كسجن. لكن من خلال بحثه، لم يجد ما أراده فقط بل أيضا وجد في قاعة كبيرة بمساحة 49 متر ب 9 أمتار (جدول 6) طبقات تعود أقدمها الى القرن الثامن والعشرون ق م. من هذه الطبقات يعود الى زمن ما بين الهيكل الاول، مرورا بزمن الروماني والصليبي والعثماني وبحالة جيدة أكثر من المتوقع. لكن أبرز هذه الاكتشافات هو بقايا حائط لقصر هيرودس من زمن القرن الاول. هذا المكان هو الذي حوكم فيه يسوع من قبل بيلاطس البنطي للأسباب التالية:
- تأريخ ذلك المكان يعود الى القرن الاول اي زمن محاكمة يسوع
- لا بد من بيلاطس أن يحاكم المسيح في مكان مميز وكبير مثل قصر هيرودوس
- هذا المكان يتقاطع مع طريق الآلام التي سلكها يسوع عند ذهابه الى الصلب
يعلق البروفيسور فى علم الآثار، شيمون جيبسون، من جامعة كارولاينا الشمالية في شارلوت، أن الشك قليل من ناحية وجود مكان محاكمة يسوع في قصر هيرودوس. ويقول "بالطبع، لا يوجد نقش يشير إلى حدوث ذلك هنا، ولكن كل شيء – الروايات الأثرية والتاريخية والإنجيلية – كلها تتوافق وتكون منطقية".
ج – اكتشافات تدل على هزة ارضية وقت الصلب
الحفريات في اليهودية سنة 2012 كشفت في طبقات التراسبية الارضية والتي تُعرف بالطين الحولي والتي تتراكم كل سنة فوق بعضها البعض. عمل على هذه الحفريات العالم الجيولوجي جيفرسون ويليامز مع زملاء من مركز الأبحاث الألماني لعلوم الأرض من خلال دراسة عيّنات من عين جدي، بالقرب من البحر الميت. أنتجت هذه الدراسات عن اكتشاف هزّتين أرضيتين حصلتا في سنة 31 ميلادية و الثانية بين سنة 26 و 36 ميلادية اي زمن حكم بيلاطس البنطي. والبارز بهذا الاكتشاف توافقه مع ما ذكر في الاناجيل عند موت المسيح من زلزلة الارض وشق حجاب الهيكل (متى 27: 51؛ مرقس 15: 38؛ لوقا 23: 45). وهذا ما يربط حصول الزلزال مع موت المسيح الذي حوكم من قبل بيلاطس البنطي.
د – اكتشاف قبر يعقوب
أُعلن اكتشاف عن تابوت للعظام بحجم 50.5 ب 25 ب 30.5 سم وما يشتهر باسم تابوت يعقوب (جدول 7) سنة 2002 في مؤتمر صحفي وكان من أهم الاكتشافات على الاطلاق. بسبب أهمية هذا التابوت، فقد أحاط به جدالات عدة ومحتدمة حتى الوصول الى محاكمة دامت سنوات. لا تكمن أهمية هذا التابوت على أنه من القرن الاول ميلادي فقط، لكن الاهمية الكبرى هي النقوش التي عُثرت عليه. هذه النقوش هي باللغة الارامية والتي تترجم للعربية كالتالي: "يعقوب، أبن يوسف، أخو يسوع" (جدول 8)، مع العلم أن الآرمية واليونانية هي اللغات الاكثر استخداما في فلسطين في القرن الاول ميلادي. اهمية هذا الاكتشاف تكمن في أن هذا التابوت الاثري يحتوي على أقدم ذكر ليسوع الذي يؤمن به المسيحيون حول العالم والذي يُذكَر في العهد الجديد أن أخاه هو يعقوب ابن يوسف النجار. ونسبة ذكر اسم اخو المدفون على قبره هو امر غير اعتيادي الا اذا كان شخصا مميزا ومعروفا. وايضا احصائيا وجود شخص في تلك الفترة اسمه يعقوب ابن يوسف اخو يسوع له نسبة 1.71 شخص ولا تتخطى الشخصين، اي انه يعقوب الذي يتكلم عنه العهد الجديد وليس آخر.
سبب الجدال حول تابوت يعقوب هو ليس بسبب التابوت نفسه. فجميع علماء الآثار متفقين على أن التابوت يعود الى فترة ما بين 20 ق م و70 ب م حين كان اليهود يستخدمون هذه الطريقة في دفن بعض موتاهم الى حين دمار أورشليم، وهذا يطابق تاريخ موت يعقوب سنة 62 ميلادية. لكن الخلاف واقع في تاريخ النقش الموضوع على التابوت. سبب الخلاف هو أن من وجد التابوت هو مالكه الحالي أودين غولان هو ليس عالم آثار بل جامع للتحف الاثرية وهو أكبر مالك للتحف الاثرية المتعلقة بالكتاب المقدس. وبالتالي لم ينقب التابوت بالطريقة الاحترافية والامانة التي لعلماء الآثار وهو ما ادى بالتالى الى التخلص من العظام التي كانت بداخله. والاعتراض الثاني هو أن فحص من خلال النظير الاوكسيجين (oxygen isotope) داخل الحفر للكلمات وعلى سطح القبر الغير محفور، فرأوا أنه يوجد فرق في النتيجة وهذا يدل على وجود تزوير. لكن من خلال محاكمة أودين غولان نكر أي تلاعب في التابوت. لكن لم يكتفي الدكتور جايمز هاريل، البروفيسور في الجيولوجيا الأثرية بجامعة توليدو، شرح سبب فروقات بالنظير الاوكسيجين وهو استخدام منظف للأثار. وهذا ما تم تأكيده من خلال فحص اشهر منظف للأثار مستخدم في فلسطين وأتت النتيجة بنفس الفروقات التي وجدت على القبر. وللتأكيد المضاعف، تم لاحقا استخدام النظير الكربوني لنفس الفحص واتت النتيجة مطابقة سطح الحفر مع سطح التابوت، وهذا ما يؤكد ان الجملة المحفورة هي أصلية. وبرهان آخر هو عدم صحية الاتهام بالتزوير بسبب عدم وجود الادلة وبسبب تحيز سلطة الآثار الإسرائيلية التي اتت بخبراء متحيزين لم يتقيدوا بتعليمات وشروط الحكم في هذا الموضوع. ويمكن الاطلاع على تفاصيل الجدال في موقع "جمعية علم الآثار الكتابي" . ويختصر كبير المنسقين في متحف أونتاريو الملكي (ROM)، إدارة حضارات الشرق الأدنى وآسيا، الجدل حول أصالة صندوق العظام ، قائلاً:
"كان ROM مفتوحًا دائمًا للتشكيك في صحة صندوق العظام (تابوت يعقوب)، ولكن حتى الآن لم يتم تقديم دليل قاطع على التزوير، على الرغم من الادعاءات الحالية التي يتم تقديمها."
5- التوافق مع التاريخ القديم
كما ذكرنا سابقا، أي كاتب موثوق به يجب يعلم الحضارة التي يكتب عنهم وماهي عاداتهم وثقافتهم. فمعاصر الاحداث يسهل عليه فعل ذلك اذ يكون الأمر طبيعيا وبلا تكلّف او جهد. يوجد أمثلة في العهد الجديد تظهر تاريخيته وصحته كمصدر موثوق للتاريخ.
فنرى مثلا في انجيل متى، يذكر متى حادثة دفع الجزية للهيكل:
" ٢٤ وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا:«أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟» ٢٥ قال بلى. فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلا ماذا تظن يا سمعان. ممن ياخذ ملوك الارض الجباية او الجزية أمن بنيهم ام من الاجانب. ٢٦ قال له بطرس من الاجانب. قال له يسوع فاذا البنون احرار. ٢٧ ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك" (متى ١٧: ٢٤ - ٢٧)
هنا نرى كيف طُلب من بطرس دفع درهمين على كل شخص، هو ويسوع. لذا المبلغ المطلوب كان اربعة دراهم. لكن نرى هنا كيف دوّن متى قول المسيح ان يصطاد سمكة ويأخذ منها، ليس اربعة دراهم، بل استارا. وهذا الكلام هو بغاية الاهمية اذ يظهر بكل عفوية وبدون أي تصنع أن الاستار الذي هو عملة يونانية كان يعادل في أيام المسيح الاربعة دنانير والتي هي عملة رومانية.
6- صحة نسخ المخطوطات
بينما يجد النقاد الصعوبة في توجيه التشكيك في صحة الكتاب المقدس، لذا كثرت انتقادات العهد الجديد بالتشديد على ان هنالك فروقات كثيرة في النسخ الموجودة بين ايديدنا. وهذا ما يدل على ان العهد الجديد لا يمكن ان نعتمد عليه ولا يمكن معرفة الاصل.
نورمان غايسلر، المدافع المسيحي، أجاب على هذا النقد من خلال اظهار نسبة التفاوت بين النسخ ومدى اهميتها على العقيدة المسيحية. قدرت المراجع النصية للعهد الجديد في Westcott and Hort أن حوالي واحد على ستين فقط من الانتقادات على فروقات النسخ ترتقي فوق "التفاهات" ويمكن تسميتها "اختلافات جوهرية". باختصار، العهد الجديد نقي بنسبة 98.33 في المائة.
ثانيًا ، قال الخبير اليوناني عزرا أبوت إن حوالي 19/20 (95 بالمائة) من القراءات هي قراءات "مختلفة" وليست "متنافسة"، وحوالي 19/20 (95 بالمائة) من البقية لا تحدث فرقًا ملموسًا في معنى النص. وبالتالي فإن النص دقيق بنسبة 99.75٪. ثالثًا ، قال الباحث اليوناني أ. ت. روبرتسون أن ما يهم من هذه الفروقات هي واحد من الف من النص بالاجمال. لذا، فإن النص المعاد بناؤه للعهد الجديد من خلال مقارنة المخطوطات خالٍ من اي خطأ حقيقي بنسبة 99.9٪.
قدّر فيليب شاف أنه من بين آلاف الاختلافات في جميع المخطوطات المعروفة في عصره، كانت 50 منها فقط ذات أهمية حقيقية ولم تؤثر واحدة منها على "اساسيات إيمانية". حتى الناقد اللاأدري في العهد الجديد بارت إيرمان يعترف بأنه "في الواقع، معظم التغييرات التي تم العثور عليها في المخطوطات المسيحية المبكرة لا علاقة لها باللاهوت أو الأيديولوجية. تحدث معظم التغييرات بعيدًا وبعيدًا عن أخطاء نقية وبسيطة من شطبة القلم، وحذف عرضي، وإضافات غير مقصودة، وكلمات بها أخطاء إملائية، وأخطاء فادحة من نوع آخر".
لخص خبير المخطوطات البريطاني الشهير السير فريدريك كينيون الأمر جيدًا عندما أعلن أن: "الفاصل الزمني بين تواريخ النص الأصلي وأول دليل موجود يصبح صغيرًا جدًا بحيث يكون في الواقع غير مهم، والأساس الأخير لأي شك في أن النصوص المقدسة لقد انخفضت إلى حد كبير كما كُتبت وقد أزيلت الآن. ويمكن اعتبار كل من صحة وسلامة أسفار العهد الجديد مثبتة بشكل نهائي ".
الخاتمة
في الختام نقول، هذا جزء بسيط وبشكل سريع عن تاريخية العهد الجديد من خلال الشهادة العلمانية الخارجية، وتأكيد علم الآثار وتوافقها معه، وايضا توافقه مع التاريخ القديم وعاداته وتقاليده وحضارته. ويمكن من المراجع التي اخذنا منها ان نستفيض ونتعمق بكثرة في براهين صدقية وتاريخية العهد الجديد.
وأيضا لا يمكن ان نغض النظر عن أن ما كُتب في العهد الجديد يحتوي على الكثير من الحقائق الحياتية والروحية التي لا يستطيع النقاد ان ينفوها. وهذا ما نراه في عدة كتب عن حياة المسيح وعجائبه وأعماله وتعاليمه التي فاقت تعليم اي انسان وسمت في قيمها: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 5: 44). المسيح لم يأتي ليكون متسلط يطلب من يخدمه. فهو قال عن نفسه "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ". (متى 20: 28). ولم يأتي لكي يكون ملكا ارضيا وله جيش، إذ قال صراحة أمام بيلاطس البنطي " أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا». (يوحنا 18: 36). وهذا ما أثار اعجاب الكثير من الرؤساء ولم يستطع أن يفعله الكثير من القادة الروحيين. فهو الذي تنبأ عنه الانبياء (جدول 9) على ممر الف سنة وتممها جميعها في حياته على ممر 33 سنة.
فنسأل ونقول: اذا لم يقنعنا ما يوجد بين أيدينا من براهين على تاريخية العهد الجديد وقدرة استخدامه كوثيقة تاريخية، فأي من الكتابات القديمة يمكننا ان نثق بها؟